عالم من الغرباء

TT

تبدو نيويورك، في نهاية المطاف، مدينة الآخر. هي مدينة الآخرين من «الغرباء»، أكثر من لندن، وأكثر من باريس، وطبعا أكثر بكثير من موسكو، التي كان يأتيها ذات مرحلة أهالي الجمهوريات، من بخارى إلى عشق آباد. فقط في نيويورك، تضحك في سرك كلما قيل، إن لبنان بلد التعدد. لا أعتقد أن ثمة مدينة في العالم، أو عبر التاريخ، اجتذبت واستقبلت واحتضنت، هذا الكم من الفئات البشرية. ولذا يبدو مقر الأمم المتحدة وكأنه مجرد مجلس بلدي، وليس مجلسا يمثل الأمم والأعراف واللغات والعادات.

نحن دائما نبحث عن أنفسنا عند الآخرين، وما لم نجد الآخر لا نعثر على ذواتنا. ابن بطوطة كان في النهاية يفتش عن ابن بطوطة، وماركو بولو ذهب إلى الصين على ظهر العباب والدواب بحثا عن عالم أفضل لماركو بولو، وطافت مخيلة ابن خلدون الأصقاع والبقاع، من أجل أن يحدد مكان الأنا وعلته ومشابهاته واختلافاته حيال مستكمله؛ أي الآخر.

فنحن، من دون الآخر، لا شيء. عتمة ووحدة وضجر. ولم يكن برج بابل في القديم سوى صورة عن العالم الذي سوف نؤول إليه. خليط من الثقافات واللغات والحضارات التي تتنافس على نحو غريب وتتآلف على نحو أكثر غرابة. تصور كيف أصبحنا في عالم لم يعد يقبل العنصريات والتفرقة. ولو من الناحية النظرية. تصور عالما لم يعد فيه جنوب أفريقيا ولم يعد الأسود ممنوعا من دخول الفنادق في أميركا، وعالما لا يعرف فيه أبناؤنا ماذا نعني تماما بكلمة الاستعمار، وعالما يمنحك فيه الشرطي الهندي في لندن تأشيرة دخول، والأستاذ الأسود في هارفارد شهادة الدكتوراه، ويصبح فيه رئيس الأركان العسكرية في أميركا جنديا أسود من الكاريبي.

لا يزال أمامنا دهر، لكننا عبرنا دهرا أيضا. تصور أنه في حياتي المهنية لم أعد أستخدم كلمة الاستعمار أو الإمبريالية أو الشيوعية أو الإقطاع أو التمييز. عندما بدأت الصحافة كانت هذه الكلمات تسيطر على كل خبر وحدث وتصريح. الآن يحمل الملايين من الآيرلنديين والتايلنديين واللبنانيين والفيتناميين، جوازات سفر أميركية أو أوروبية يتنقلون بها حول العالم. ها هو الآخر يصبح الشخص الرئيسي وصاحب الأمكنة. الهنود يحصدون جوائز الأدب في بريطانيا والعرب في فرنسا والمصريون في أميركا. وأنا لم أشهد مسرحية لجورج شحادة في بيروت، لكنني ذاهب غدا إلى برودواي، لأرى كيف يمكن ترجمة شحادة إلى الإنجليزية، وكيف يمكن أن تكون حواراته الأشبه بأواخر العطر، على مسرح نيويوركي.