مجتمع البروتوكول

TT

في القرنين التاسع عشر والعشرين، كنا ننتج أشياء، مثل القمح والحديد الصلب والشاحنات. اليوم، أصبحنا نقدم بروتوكولات لا تعدو كونها مجموعة من التوجيهات والإرشادات. إن البرمجيات ليست سوى بروتوكول لتنظيم المعلومات، والعقار الجديد يمثل بروتوكولا لتنظيم العناصر الكيميائية. وتقدم «وال مارت» بروتوكولات لنقل وتسويق السلع الاستهلاكية. حتى عندما تشتري سيارة، فأنت تدفع المال في الغالب مقابل المعرفة الكامنة وراء تصميمها، وليس من أجل المعدن والزجاج القائم أمامك.

أما الاقتصاد القائم على البروتوكولات، فيحمل خصائص مغايرة للغاية عن الاقتصاد المعتمد على المنتجات الفعلية.

على مدار العقود الماضية، سعى الكثير من علماء الاقتصاد لوضع تعريف للاختلافات بين الاقتصاد القائم على السلع الفعلية والاقتصاد المعتمد على البروتوكول في صورته المعاصرة. عام 2000، ألقى لاري سمرز، وزير الخزانة آنذاك، خطابا بعنوان «ثروة الأمم الجديدة»، حدد فيه بعض أسس الاقتصاد الجديد. ومن بين المجهودات الرائدة على هذا الصعيد الدراسات التي اضطلع بها دوغلاس نورث، من جامعة واشنطن، وروبرت فوغيل، من جامعة شيكاغو، وجويل موكير، من نورث ويسترن، وبول رومر، من ستانفورد.

وتشكل الأبحاث التي قاموا بها محور اهتمام كتاب جديد بعنوان «من الفقر إلى الرخاء»، من تأليف أرنولد كلينغ ونيك شولتز. يبدأ الكاتبان بعرض صورة فكاهية لساحة لبيع الأطعمة، حيث يوضحان وجود بروتوكولات في كل مكان تحكم ليس فقط أسلوب إعداد الطعام، وإنما كذلك كيفية الترحيب بالعملاء والتعامل مع المعدات التي يجري التشارك فيها مثل الصواني والطاولات، وكيفية تسوية الخلافات بين المتاجر الصغيرة في المنطقة وتطبيق العقود مع الإدارة. يعتمد نجاح أي اقتصاد على قدرته على ابتكار وإقرار بروتوكولات جديدة. ويستخدم كلينغ شولتز عبارة «ترشيد الاستهلاك المتكيف»، بينما يتحدثان في الواقع عن مدى سرعة ضخ أفكار جديدة في مجتمع ما.

تعد البروتوكولات عناصر غير ملموسة. وعليه، فإن الخصائص اللازمة لابتكارها واستيعابها غير ملموسة أيضا.

أولا، ينبغي على أي دولة التمتع بنظام تشغيل جيد، من قوانين وتنظيمات وحقوق ملكية. ثانيا، ينبغي على أي دولة بناء ثقافة اقتصادية جيدة. يتضمن كتاب «من الفقر إلى الرخاء» مقابلات مع عدد من كبار علماء الاقتصاد. والمثير أنهم بدأوا يبتعدون عن النماذج الرياضية باتجاه مجالات مثل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا.

من جهته، أكد إدموند إس فيليبس، من جامعة كولومبيا، أن الأهمية الحقيقية تكمن في طبيعة الثقافة الاقتصادية السائدة -بمعنى التوجهات نحو الشكوك، والاستعداد لممارسة القيادة، والاستعداد لإطاعة الأوامر.

إن الاقتصاد القوي بحاجة إلى عملاء يتميزون بالجرأة (يرى فيليبس أن الصين تفتقر إلى هذا الأمر) وباحثين شباب تتوافر لديهم الأموال للمغامرة بها.

الملاحظ كذلك أن الاقتصاد القائم على البروتوكول يميل باتجاه انعدام التكافؤ، نظرا لأن بعض المجتمعات والثقافات تتضمن توجهات وميولا وعادات تسرع من وتيرة انتشار أفكار جديدة، بينما تتسبب ثقافات أخرى في الإبطاء من وتيرتها. وتتميز بعض الأمم بنعمة وجود أسر تعتمد على ذاتها وتسود بها مشاعر ثقة اجتماعية وتنظيمات وقوانين يجري فرضها على نحو عادل، في الوقت الذي تعاني فيه أخرى من لعنة انعدام الثقة والفساد، وانتشار توجهات تعتمد على الإيمان بالحتمية والقضاء والقدر حيال المستقبل. ومن العسير للغاية نقل البروتوكولات من ثقافة إلى أخرى. ومن المثير أن الكثير من العلماء الذين نالوا جائزة نوبل يتبعون مثل هذا التوجه.

أما نورث، رائد هذا الحقل، فلا ينظر إلى عمله باعتباره يتعلق بعلم الاقتصاد، وإنما يرى أنه أقرب إلى العلوم الاجتماعية. ورغم ذلك، لا يزال هناك علماء اقتصاد ينتهجون وجهات نظر حيال العالم تقوم على الفردية والعقلانية. وفي كتابهما، عجز كلينغ وشولتز عن تقديم تفسير جيد لكيفية ظهور الإبداع والابتكار، وإنما اكتفيا بالإشارة إلى بعض السمات الشخصية (مثل الطابع الكاريزمي والحماس) التي من المفترض أن يتحلى بها رجال الأعمال. ومن أجل تكوين وجهة نظر كاملة عن الموضوع برمته، قرأت كتاب «من الفقر إلى الرخاء»، ثم أنوي قراءة «عالم ذكي»، من تأليف ريتشارد أوغل عام 2007، وهو أحد الكتب التي لم تنل حظها من التقدير خلال هذا العقد.

من ناحيته، يطبق أوغل نظرية الشبكات والفلسفة على العقل الجماعي، لإظهار كيفية ظهور الابتكار والإبداع من المجموعات الاجتماعية. الواضح أن التغييرات الاقتصادية تثير تغييرات فكرية، فعندما اعتمد الاقتصاد على المواد الملموسة، كان علم الاقتصاد أشبه بالفيزياء. وعندما أصبح قائما على الأفكار، بدأ علم الاقتصاد في الاقتراب من علم النفس في مظهره.

* خدمة «نيويورك تايمز»