أمراء الصعاليك قديما وحديثا

TT

لكل عصر صعاليكه من الأدباء. وإن كانت الصعلكة تختلف من عصر لعصر، فمجتمع الصعاليك في العصر الجاهلي كان يضم الفقراء الثائرين على الأوضاع الاجتماعية السائدة، من أمثال: عروة بن الورد، والسليك بن السلكة، والشنفرى، وتأبّط شرّا، وغيرهم، وقد انضم البعض إلى مجتمع الصعاليك؛ بسبب حرمانهم من الانتساب إلى قبائلهم، لسواد لونهم الموروث من أمهاتهم الإماء، أو لارتكابهم أفعالا تتعارض مع أعراف مجتمعهم القبلي. وللصعاليك قوانينهم الخاصة، وهم على درجة كبيرة من التكافل والتعاطف فيما بينهم، وقد شكلوا في الجاهلية أول حركة احتجاج على الأوضاع العرقية والطبقية التي كانت سائدة في زمنهم، ويعتبر الشاعر عروة بن الورد أمير الصعاليك في ذلك العصر.

أما الصعلكة بمفهومها الحديث، فهي تختلف حتما عن مفهومها في العصر الجاهلي، وإن كانت النزعة إلى التشرد، هي ما يجمع الصعاليك في كل العصور، وخير من يمثلها في العصر الحديث الشاعر العراقي جان دمو، فهو روح عبثية مشردة، ساخطة على كل شيء، ولو نصب صعاليك الأدباء في العصر الحديث أميرا عليهم، تجتمع فيه موهبة الصعلكة الكاملة، لما وجدوا أفضل من جان دمو، صاحب ديوان «أسمال»، فهذا الشاعر المتشرد المحتج والمتمرد، لم يسلم من سلاطة لسانه أحد، حتى الذين يتعاطفون معه، ويقومون بغسله وتنظيفه، وحلق شعره. ويروي عدنان حسين أحمد عن جان دمو، أن امرأة ثرية محبة للأدب والفن أعجبت بشخصيته الغريبة أثناء وجوده في لبنان، وأرادت أن ترتقي به، وطلبت منه أن يستحم، وأن يحلق ذقنه كل يوم، ووفرت له الملابس الأنيقة والعطور الباريسية، لكن جان دمو ضاق ذرعا بكل ذلك، وارتمى من جديد في أحضان فقره، وقد مات جان دمو، سيد الصعاليك، وحيدا في مدينة سيدني الأسترالية، بعد رحلة طويلة مع التشرد والعبثية وغرابة الطباع.

أما نائب جان دمو في إمارة الصعلكة، فهو من دون شكّ الشاعر المصري عبد الحميد الديب، الذي عاش مشردا بلا عمل فترة طويلة من حياته، وظل يحمّل المجتمع مسؤولية بطالته وتعطله، وحينما عُين في وظيفة في إحدى الإدارات الحكومية، ظل يحتج بأن دخلها لا يكفي ضرورات حياته، وعبر عن احتجاجه الساخر بالقول:

بالأمس كنت مشردا أهليا/ واليوم صرت مشردا رسميا

ويمكن أن يندرج ضمن صعاليك عصرنا عدد من الكتاب والشعراء والروائيين العرب.

وأثناء فترة عملي في الصحافة الأدبية أتيحت لي صداقة بعض الأدباء السعوديين، ممن يمكن أن ينطبق عليهم بعض سمات الصعاليك، من حيث غلبة الفقر، والبوهيمية، والتمرد على الحياة، وعدم الاستقرار النفسي، وكم أتمنى أن أكتب عنهم مقالا منفردا ذات يوم؛ ليقيني أن مجتمعنا الأدبي لم يرصد حياة هؤلاء الأدباء بالقدر الذي يثري التفسير النفسي لإبداعاتهم.