لماذا لا تأخذنا إسرائيل على محمل الجد؟

TT

عندما كنا طلابا في كلية الدراسات العليا ندرس العلاقات الدولية، كان أساتذتنا يعلموننا فكرة بسيطة تعد من المفاهيم الحاكمة لعالم العلاقات الدولية، أساس هذه الفكرة هي أن النظام العالمي هو نظام «فوضوي» تعتمد فيه كل دولة على نفسها في حماية أمنها ضد أعدائها وتبني تحالفاتها بناءً على احتياجاتها الأمنية، وإسرائيل لا تختلف عن أي دولة من دول النظام العالمي المبني على مساعدة الذات، تبحث عن الحماية ضد من يستطيعون إيذاءها، وكذلك تبحث عمن يساعدها لتأمين نفسها ضد الأعداء الحقيقيين والمحتملين. أي أنها تعمل حساب من يستطيع إيذاءها أولا، تتحسب له باستراتيجيتين: استراتيجية المواجهة أو استراتيجية التفاهم والتعاون، كما أن الدول دائما تبحث عمن يساعدها في درء الأخطار أو تعظيم المكاسب.

ومن هنا يكون منظور أي دولة للدول الأخرى في سياق أنها إما دول تستطيع مساعدتها وحمايتها ضد الأخطار، وإما دول تستطيع إيذاءها. وإذا ما طبقنا ذلك على إسرائيل نجد أن إسرائيل تتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية كحليف يحميها ضد الأخطار، وكذلك تتحالف مع أوروبا لأنها دول تستطيع مساعدتها.

وفي هذا السياق يكون سبب فشل العرب الأول مع إسرائيل هو أننا لم نستطع أن نقنعها كدولة وكمجتمع بأن لدينا القدرات على أن نؤذيها، كما أنه ليس لدينا القدرة على حمايتها، هذا هو كل ما في الأمر، وغير ذلك ضرب من الخيال. هاجس إسرائيل الأول والأخير هو الأمن، فلو أقنعناها بأننا قادرون على إيذائها لتغير الأمر، كما أنه لو كانت لدينا القدرات على حمايتها لتغير الأمر أيضا ـ ولكن العرب غير مقنعين في الحالتين، لا القدرة على الإيذاء ولا القدرة على التعاون والمساعدة ـ ومن هنا لا يأخذهم الإسرائيليون مأخذ الجد.

ولو تخيل الفرد منا كيف يدور عقل الشخص الإسرائيلي الذي يعمل في إدارة التخطيط في وزارة الدفاع أو في وزارة الخارجية أو في مؤسسة الأمن القومي الإسرائيلي، لاتضحت الصورة بشكل أفضل. بداية كل هؤلاء درسوا نفس النظريات الخاصة بالعلاقات الدولية في الجامعات الغربية، وكذلك درسوا القانون الدولي وخبروا قصوره ومنافذ الخروج من فخاخه، درسوا الاستراتيجية المبنية على الحياة في نظام تحكمه الفوضى. إذن بما أن هذا كله صحيح، ترى كيف يفكرون في تعاملهم مع العرب وكيف يرسمون خططهم، خارج ما نتخيله عنهم والذي تعلمناه من مسلسلات الجاسوسية التي تعرضها تلفزيوناتنا؟

أولا الخارطة العربية الاستراتيجية توحي بأن العالم العربي المستهدف غارق في مناطق مشتعلة أو قابلة للاشتعال، وإن أي عملية تسوية ليست لها أولوية بالنسبة إليه، وإن إسرائيل ليست شغله الشاغل في هذه الفترة من ناحية الحماية أو المساعدة أو التحالفات، وعليه فموضوع إسرائيل ليس مهما بالنسبة إلى صانع القرار.

وبالفعل لو نظرنا إلى العالم العربي اليوم لوجدنا أن ربع أعضاء الجامعة العربية دول غارقة في مشكلات الفشل أو الاتجاه إلى الفشل لأن ربع الدولة أو نصفها خارج عن حدود سيطرتها. والناظر اليوم إلى دولة كالسودان مثلا يجدها فاقدة للسيطرة على أكثر من نصف أراضيها في دارفور وفي الجنوب. أما الصومال فأنا لست متأكدا أنها دولة بعد، وإذا ما نظرنا إلى اليمن وأمعنّا النظر في حركة التمرد الحوثي في الشمال وبروز رغبة الانفصال لدى الجنوبيين، فنحن أمام احتمالية حقيقية لفشل الدولة هناك. أما العراق، فربنا يستر، ولبنان هي حالة أكثر من كونها دولة أو شبه دولة، أما القضية الأم وهي قضية فلسطين فقد دخل أهلها في نفق لا يستطيع أحد التخمين بيوم الخروج منه.

إذا نظر المخطط الإسرائيلي إلى بديهيات الموقف فسيجد نفسه في حالة سلام مع دولة محورية ذات جيش منافس وقوي هي مصر، وبالتالي تكون مصر خارج معادلة التهديد، وهي خارج معادلة القدرة على الحماية أيضا. كما أن الدولة الحاجزة بين إسرائيل والدول العربية الأخرى، وهي الأردن، أيضا في حالة سلام معها، وعلى الجانب الشمالي هناك قوة دولية بين إسرائيل وحزب الله، وهناك هدنة دائمة بين إسرائيل وسورية. إذن في دائرة الجوار المباشر لا تحس إسرائيل لا بخطر الإيذاء ولا بحوافز المساعدة، ومن هنا لا تكون لدى الإسرائيلي الرغبة في الحركة لأن الوضع القائم هو أفضل وضع ممكن.

أما دول الجوار غير العربية مثل إيران وتركيا فهي إما في حالة علاقة صداقة استراتيجية وتعاون مثل تركيا، أو تهديد شفوي حنجري وسيوف خشبية، مثل حالة أحمدي نجاد. ولكن جماعتنا من مدرسة هيفاء وهبي في العلاقات الدولية (مدرسة رجب حوش صاحبك عني) يظنون أن تركيا في صفهم ضد إسرائيل، وأن رجب طيب أردوغان هو المخلص. فبينما للطائرات الإسرائيلية حق استخدام الأجواء التركية التي تستطيع عبرها ضرب غزة وإيران ومن شاءت من دول المنطقة، وبينما تسلم إسرائيل تركيا طائرات دون طيار ضمن التفاهم الاستراتيجي بين البلدين، فإن بعض العرب قد أسكرته حركة رجب طيب أردوغان عندما خرج بشكل مسرحي بعد مشادة كلامية مع الرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريس، من فوق مسرح واحدة من ندوات منتدى «دافوس» السنوي المسمى باسم تلك المدينة السويسرية الباردة. وصدق العرب فيلم رجب.

الأخطار التي تهدد إسرائيل اليوم هي من إيران ومن وغزة، وكلاهما خطر صوري أكثر من كونه خطرا حقيقيا. أخطار تصب في مصلحة إسرائيل لا ضدها، فمثل هذه النفخات الكاذبة ممن يريدون إنهاء إسرائيل تماما أم ممن يريدون إلقاءها في البحر، هي أخطار ضرورية لكسب عطف يهود الغرب، مما يؤمن استمرار المساعدات لإسرائيل بالكميات الهائلة التي لا نراها، فلو لم يوجد أحمدي نجاد ليعلن أنه يريد إبادة إسرائيل لاخترع الإسرائيليون أحمدي نجاد من عندهم، ولو لم يوجد إسماعيل هنية لاخترعوا إسماعيل هنية.

الوضع الحالي بالنسبة لإسرائيل هو وضع مثالي، لا يوجد من يستطيع إيذاءها، ولكن هناك من خارج الإقليم أو داخله ممن تصب تصرفاتهم وسلوكهم في إطار مساعدة إسرائيل لا إيذائها.

إذن الوضع هو أفضل وضع بالنسبة لإسرائيل، لأنه وضع ليس فيه تهديد حقيقي لأمن إسرائيل، كما أن فيه تهديدا صوريا يقنع أميركا والغرب باستمرار المساعدات لإسرائيل بالطريقة التي عليها الآن. فالحرب بالنسبة لإسرائيل تهديد لأمنها، وكذلك السلام يعني نهاية المساعدات.

إسرائيل اليوم في أحسن حالاتها، ليس لديها حروب تهددها، كما أنه ليس لديها سلام يعني أن تعتمد إسرائيل على نفسها بدلا من المساعدات الخارجية. تدفق المساعدات وغياب الحرب هما استجابة لأفضل رغبات إسرائيل وأفضل السيناريوهات التي لا يحلم بها الإسرائيليون في أفضل الأوقات. لكل هذا لا يأخذنا الإسرائيليون مأخذ الجد.