وليام ابن الليدي دايانا.. وليس السمع كالعيان

TT

تناقلت وكالات الأنباء خبرا عن الأمير وليام ابن الأميرة الراحلة دايانا وولي العهد البريطاني الأمير تشارلز، مفاده أن ابنهما الأمير وليام أمضى ليلة في العراء مشرّدا، بينما كانت درجة الحرارة 4 تحت الصفر، ليلفت نظر العالم إلى قضية المشردين في بريطانيا، ويروي من كانوا برفقته أن الأمير نام كالمشرّدين على قطع من الكرتون، وأنهم ذهلوا لمعاناة المشرّدين، وللبرد القارس الذي يعانون منه. ما إن تهدأ الحركة حتى يأتي مروّجو المخدرات إلى هؤلاء المشرّدين الذين يعيشون في خوف دائم من الاعتداء عليهم، كما تملّكهم الخوف حين اقتربت سيارة نظافة من الأمير الملتحف ببطانية، وكادت تسير فوق جسده. ما لفت نظري في هذا الخبر، بالإضافة إلى شعور الأمير وليام الإنساني الدافئ حيال هذه الشريحة المشرّدة، لأسباب اقتصادية، هو حاجة الإنسان إلى أن يعيش حالة معاناة بشرية معينة، لكي يتعرّف بالضبط على ماذا تعني في الواقع الفعلي، لأن كلّ كلام الكون، وكل إمكانات الشرح والتوصيف، لا يمكن أن تنقل عمق المعاناة التي يعيشها البشر، ما لم يخُض الإنسان التجربة بنفسه، وخصوصا إذا كانت جوعا، أو مهانة، أو تشريدا، أو تعذيبا، أو حربا، أو إذلالا عنصريا بسبب احتلال بغيض.

هكذا أفسّر عجز العالم الغربي «المتحضر» عن فهم معاناة الشعب الفلسطيني من الاحتلال، والاضطهاد، والقتل، وهدم المنازل، والحرمان من الحرية، حيث تُحكم إسرائيل الحصار على ملايين الفلسطينيين، وتمنع العالم حتى من رؤيتهم، أو إيصال الغذاء والدواء إليهم، وتحيطهم بالجدران الإسمنتية والفولاذية، وإذا أرادت أن تفرج عن بعض الأسرى، فبشرط إبعادهم عن أرضهم وأهلهم، فيما تجبر الملايين منهم على العيش طوال ستة عقود في مخيمات اللجوء البعيدة.

وهنا أقول: هل يمكن لأحد أن يتوقّف لحظة ليرى ماذا يعني أن يصبح الإنسان «لاجئا» في بلد غير بلده، أو «مشرّدا» في بلده؟! ماذا يعني أن يكون الإنسان محاصرا كسكان غزة؟! كيف يعيش المرء وجدران الإسمنت والفولاذ تحاصره؟!

حين قرأت عنوانا في جريدة «وول ستريت» (24/12/2009) يقول: «اللاجئون الفلسطينيون المنسيون»، شعرت بأن هناك في الغرب، الذي أنزل كل هذا العذاب بالفلسطينيين منذ مائة عام، مَن بدأ يتذكر معاناتهم، وبادرت إلى قراءة المقال، وإذ بالمقال يفبرك قصة عن شاب فلسطيني يدعى يوسف خوري، لاجئ في الضفة الغربية، ويدّعي كاتب المقال دانيال شوا منثال، أن هذا الشاب قد تعرض للاضطهاد على أيدي «المسلمين» في غزة، لأنه مسيحي، تخيّلوا أن منثال هذا لم يتحرك ضميره ليُدين مائة عام من العذابات والاضطهاد والمجازر والحروب التي لا يزال يتعرض لها الفلسطينيون على أيدي «اليهود»، بل راح يستغل فترة أعياد الميلاد ليحرّض مشاعر المسيحيين في بلاده ضد «المسلمين» في غزة، وليقدم لمجرمي الحرب والحصار والاستيطان الإسرائيليين خدمة تبرير ارتكاب جرائمهم ضد مسلمي ومسيحيي غزة! تُرى هل يدفع الإسرائيليون لمثل منثال كي يرتكب جريمة التواطؤ والسكوت عن جرائم الاضطهاد التي يرتكبونها علنا وبشكل رسمي ضد الفلسطينيين، فلم يرَ أي مضطَهد في غزة سوى يوسف خوري هذا إذا كان ما قاله صحيحا، وأشكّ في ذلك؟! أم أنه مثلهم دون ضمير؟!

إن المسيح عيسى بن مريم هو الفلسطيني الأول الذي عانى من الاضطهاد والقهر والعذاب، ولا يزال أتباعه تُهدم بيوتهم في القدس. ولم يتناقص عدد المسيحيين في القدس وفلسطين عموما إلا بعد قيام إسرائيل، فقد عاشوا هنا لآلاف السنين، إلى أن أتى الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، والاحتلال الأميركي للعراق، حين بدأ تهجيرهم من هذا الشرق موطن الأنبياء والأديان.

جريدة «وول ستريت» تعرف أن البيوت التي تهدمها يوميا إسرائيل في حيّ الجراح بالقدس يملك معظمها عائلات مسيحية، وأن عدد المسيحيين بالقدس كان يفوق خمسين ألفا منذ عدة سنوات، والآن لا يتجاوز عشرة آلاف، بفعل سياسة التهجير والتهويد الإسرائيلية التي يتعامى عنها منثال، وأمثاله.

في مثل هذه الأيام، والعالم يحتفل بأعياد ميلاد نبي السلام، تمر الذكرى الأولى للحرب الإسرائيلية الهمجية على غزة، حين قصفت إسرائيل المدنيين «المسلمين» ذاتهم، وهم ليسوا مسلمين فقط، بل مسلمون ومسيحيون، الذين يتكلم عنهم منثال، بالقنابل الفسفورية الحارقة، وقتلت وجرحت الآلاف من الأطفال. وفي هذا العام ومنذ أيام قتلت إسرائيل يوم عيد الميلاد ستة شبان فلسطينيين، ثلاثة منهم في منازلهم في نابلس وأمام أطفالهم وزوجاتهم، وهم رائد السركجي (38 عاما)، وغسان أبو شرخ وعنان صبح، وثلاثة منهم بالقرب من حاجز بيت حانون في غزة. فماذا يقول العالم في هذه الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل بدم بارد يوم عيد الميلاد بحق شبان عزّل وأبرياء؟

بعد الاطلاع على الأوضاع اللاإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون، قرر اندرياس فان آخت رئيس وزراء هولندا السابق، الحديث عن معاناتهم، وقرر أن يكون صوته داعما للعدالة. وفي ما يشبه ما قام به الأمير وليام، يقول فان آخت: «لقد سقطت الغشاوة عن عيني خلال زيارة قمت بها للأرض المقدسة عام 1990 حين وجدت نفسي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقد ذهلت مما سمعت ورأيت. لمدة طويلة جدا كنت أعتقد أنه لا يمكن لإسرائيل أن تنتهك القانون الدولي. كان هذا فشلي. الحقيقة مختلفة تماما. بالنسبة لمئات الآلاف من الفلسطينيين، فإن دولة إسرائيل هي بمثابة كارثة». من هنا بدأ بتأسيس «منتدى الحقوق»، والذي يظهر انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي.

وفي الذكرى الأولى لتلك الحرب الوحشية على غزة، ما زالت إسرائيل تمارس العقوبات الجماعية الشنيعة على مليون ونصف مليون مدني في غزة، وتقتل وتعتقل كما تشاء، ومع ذلك كل ما يهم أمثال منثال هو التغطية على مجرمي الحرب الإسرائيليين وتبرير جرائمهم، عبر قصة مفبركة لطالب لجوء!

كتب كريس باتن مقالا في «الديلي تلغراف» (23/12/2009) يقول فيه: «إننا خذلنا شعب غزة»، ويدعو العالم إلى اتخاذ موقف لرفع الحصار، كما كتب نيك كليغ في جريدة «الغارديان» البريطانية مقالا بعنوان: «ارفعوا الحصار عن غزة» (23/12/2009) يقول فيه: «إن معاناة الشعب الفلسطيني في غزة تصدمك». كما أفادت مجموعة من 16 منظمة غير حكومية غربية أن المجتمع الدولي قد «غدر» بشعب غزة، وأنه لم يحرك ساكنا لرفع الحصار عنه بعد عام من عملية «الرصاص المصبوب»، حين صب حكام إسرائيل قنابلهم الفسفورية على المدنيين والأطفال العزل، وما زال محظورا على السكان إدخال الإسمنت أو مواد البناء لإعادة الإعمار. وطالبت هذه المنظمات وزراء الخارجية الأوروبيين والممثلة الجديدة للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاترين اشتون بزيارة غزة والاطلاع بأنفسهم على تأثير الحصار على السكان، بعد أن قتل قبل عام فقط أكثر من 1400 فلسطينيا في أثناء الهجوم الجوي والبري والبحري الذي شنه حكام إسرائيل، أولمرت وليفني وباراك، من 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008 إلى 18 يناير (كانون الثاني) 2009 على قطاع غزة. والسؤال: هل سيتحرك ضمير هؤلاء «المتحضرين» أم أنهم سيعملون على حماية مجرمي الحرب الإسرائيليين عبر دفن تقرير غولدستون؟!

صرخات مماثلة عدة أطلقها ريتشارد فولك المنسق الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والذي أكد مرارا وتكرارا أنه على أصحاب الضمير في العالم، وعلى الحكومات في كل أرجاء الأرض، وعلى الأمم المتحدة، أن تولي الاهتمام اللازم للوضع اللا إنساني الذي يعيشه الفلسطينيون في غزة. وأكد أن «معاناة أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني في غزة، أكثر من نصفهم من الأطفال، سببها الحصار الإسرائيلي على غزة، وقد سمح لها بالاستمرار بسبب عدم الرفض الرسمي لهذه السياسات من قبل حكومات العالم، ومن قبل الأمم المتحدة، حيث لم نلاحظ إلى اليوم أي ضغط دولي ذي مغزى يضع حدّا للحصار على غزة. ويمثل هذا فشلا مأساويا لتحمل المسؤولية من قبل حكومات العالم والأمم المتحدة»، بل إنه عار القرن الواحد والعشرين، ويتحمله كل قادة العالم «المتحضر» الذين أصابهم الخرس والعمى، فإذا هم يتكلمون عن كل شيء إلا إيقاف جريمة الإبادة الرسمية الإسرائيلية.

في كل مرة يتحدث فيها فولك، وكارتر، وديزموند توتو، واندرياس فان آخت، وأيّ حرّ من أحرار العالم عن الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، توجه إسرائيل السهام إلى حامل الرسالة ليتم تجاهل الرسالة من قبل السياسيين والإعلاميين الغربيين المذعورين من الموساد وأذرعها المتمثلة في اللوبيات اليهودية، فها هي بعد أشهر من إعلان بوستروم أن إسرائيل تقتل شبانا فلسطينيين من أجل سرقة أعضائهم، يعترف حاخامات إسرائيليون آخرون بسرقة أعضاء القتلى الفلسطينيين، وتؤكد أوكرانيا كذلك على سرقة أطفال أوكرانيين إلى إسرائيل من أجل سرقة أعضائهم.

غزة ليست في القمر، وإسرائيل ليست في كوكب آخر، أوَليس على دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان أن يكلفوا أنفسهم عناء زيارة فلسطين، والاطلاع على معاناة الفلسطينيين في غزة عن كثب، ليقرروا لأنفسهم من هو المجرم الذي يجب أن يمنعوه من الاستمرار في ارتكاب كل هذه الجرائم الشنيعة، وأولها إبادة شعب أصيل وتهجيره عن أرضه؟! بعد عام على الحرب المجرمة على غزة، ما زال الفلسطينيون تحت حصار وحشي بكل المقاييس، وهو غير مسبوق، حتى في عهود النازية وبول بوت وغيرهم من الطغاة.

فإلى متى يمكن أن يستمر هذا العار في جبين البشرية؟! إنه هولوكوست القرن الواحد والعشرين، وكل من هو صامت عنه يُعتبر شريكا في الجريمة. لقد أصبح الصمت الدولي مؤامرة ضد الإنسانية، وأصبح على القادة الغربيين أن يحذوا حذو الأمير وليام، ابن الأميرة دايانا، بأن يحاولوا النوم في غزة ليلة واحدة في العراء، كما يفعل مشردو عملية «الرصاص المصبوب»، علّ ذلك يوقظ ضمائرهم النائمة الصامتة المتجاهلة لواقع مرير ومشين ومنافٍ لكلّ الأخلاق الإنسانية والرسالات السماوية والشرائع الدولية.