حكاية حب

TT

هل من الممكن أن تحب إنسانا لم تره ولم تخاطبه ولم تعاشره ولا تعرف بدقة ملامح وجهه ولا نوع ابتسامته إذا ابتسم؟

لو أن أحدهم سألني هذا السؤال لأجبت بالنفي بلا أدنى تردد. ولكن التجربة تعلمني جديدا كل يوم.

فأنا حقا أحب رجلا لم تسمح لي الظروف بلقائه، ولم أسمع صوته، ولم تربطني به أواصر صداقة، ولم أتقاسم معه طعاما فنشأت بيننا رابطة العيش والملح. فقد توفي منذ زمن ولم أسمع سيرته إلا بعد أن تعرضت لحادث مرور كاد يكلفني حياتي. فمنذ سنوات انقلبت بنا سيارة على طريق لا زرع فيه ولا ماء، ولولا رحمة الله واختراع صغير اسمه الهاتف الجوال لما وصلتنا النجدة ولما استمرت حياتي لأكتب هذه السطور.

بعد الحادث وأنا في قبضة آلام مبرحة أهداني زوجي كتابا كان والده أوصى بطبعه وتوزيعه مجانا بعد وفاته. في الكتاب آيات قرآنية يوصي الكاتب بقراءتها في سياق معين لتنزل السكينة على قلوب القارئين. وإلى يومنا هذا وبعد مرور عشر سنوات على الحادث ما إن أفرغ من القراءة حتى يرخي النوم الهادئ الرحيم سدوله علي وكأنني أعود إلى رحم أمي لكي أولد من جديد.

منذ أيام كنت في نقاش حاد مع ابنتي التي تعرضت لحادث سرقة، حين تمكن لص من تزوير بطاقتها البنكية وإفراغ محتويات حسابها تماما قبل أن ينتبه البنك إلى السرقة.

كانت غاضبة تسألني: «لماذا يفعل الله بي ما فعل ولم أؤذ أحدا؟».. قلت لها استغفري الله. ثم إن الله لا يعاقبك بل يذكرك بالنعم الأخرى التي أسبغها عليك. احمدي الله أن لك حسابا في البنك وغيرك يجتهد لتأمين خبز يومه ولا يفلح.

وللأسف ما زادتها نصائحي إلا غضبا. وهنا تدخل زوجي وقال لها «إن كانت فلوسك حلالا سوف تعود إليك. والمسألة مسألة وقت. توكلي على الله».

فقالت «كم مرة قلتم لي توكلي على الله وتوكلت ولم يتحقق ما أتمنى؟»..

قلت لها غاضبة: ليس هذا توكلا بل قلة حياء، وكأنك تصارعين ربك وتفتعلين معه خناقة.

وهنا تدخل زوجي مرة أخرى وقال لها برفق «هناك فرق بين أن نقول توكلنا على الله بكلمات تخرج من أفواهنا وبين حسن التوكل الذي هو يقين في القلب». وقال إن أباه علمه معنى حسن التوكل حين فقد مالا كثيرا وجواز سفر وأوراقا في سيارة تاكسي. قال «كنت في حالة انفعال فقال لي والدي توكل على الله. فقلت له أتوكل على الله ولكن ألا تكلم مدير أمن القاهرة لكي يفعل شيئا؟ فقال هز أبي رأسه وقال لي أتثق بمدير الأمن ولا تثق بربك؟ سوف أكلم المدير ولكن اعلم أنك لا تحسن التوكل. وحين اعتذر مدير الأمن بأنه لا يمكن استجواب مليون سائق لزمت الفراش وتملكني اليأس وقررت استخراج جواز سفر جديد وإلا تأخرت عن عملي.

في صباح اليوم المحدد أيقظني خادم وقال هناك رجل بالباب سلمني هذا المظروف الذي وجده على شريط السكة الحديد في إحدى مدن الصعيد. فتحت المظروف ووجدت كل شيء ما عدا النقود. هرعت إلى الباب لكي أشكر الرجل ولكني لم أجد له أثرا».

انتهت القصة وهدأت البنت وتجدد في القلب حب رجل لم أره.