التجاوزات الإيرانية.. هكذا يكون الرد

TT

في المرحلة الأولى من حرب السنوات الثماني كانت القوة العددية والنارية للقوات المسلحة العراقية محدودة، لا سيما في ظروف نشر ودفع القوات على جبهة واسعة. وبمرور الوقت تتضح صور أخرى للكيفية التي كان ممكنا إدارة الصراع بها. ويعتبر هذا أحد أدلة فرض الخميني الحرب على العراق. أي أن العراق اضطر إلى قبول خوض الحرب في ظروف عدم تكامل بناء قواته. وفيما بعد، أصبح لي رأي آخر في طريقة المعالجة الأنجع.

أي فعل يستهدف الشعوب لا يمكن أن يكتسب شرعية، فالشعوب المؤهلة للتفاهم قادرة على حل المعضلات والإرهاصات. إلا أن المشكلة تكمن دائما في هذا الطرف أو ذاك من القيادات. ولم تشهد علاقة العراق وإيران روابط وثيقة بسبب أفكار بالية ومشاريع توسعية بقيت «معشعشة» في عقول قيادات إيرانية متشددة، مرة بدوافع عنصرية وأخرى متسترة بالدين.

محرم هذا يختلف عن أي محرم آخر في العصر الحديث. فلأول مرة تترافق النشاطات في إيران والعراق. حيث تتصاعد في المدن الإيرانية ثورة ثقافية واجتماعية وسياسية شعبية بيضاء قادرة على جرف الأفكار البالية، لولا قوة القمع اللامحدود الذي تمارسه سلطات ولاية الفقيه. ويستحق شباب وشابات طهران وأصفهان وخراسان وغيرها من المدن والأرياف التحية والتأييد من قوى الخير في العالم. فما يقوم به المتظاهرون يبشر بتصويب صحيح للعلاقات الإيرانية مع المجتمع الدولي ودول الجوار.

ورغم عقد الحرب وتركة التاريخ، لم تغب عن ذهني شجاعة الساعين إلى الحرية من الإيرانيين. وكثير من الشباب الذين سحقتهم آلة الحرب على جبهات القتال بسبب إصرار الخميني وفريقه على تحويل حرب الأيام الستة إلى حرب السنوات الثماني كانوا شجعانا. وسجل المعارضون الإيرانيون للنظم المتحجرة شجاعة قل مثيلها في العالم.

وعندما قلت: «انتفض عرب العراق على فيلق الإرهاب (الإيراني) فساندوهم» («الشرق الأوسط» 26 أغسطس 2008)، لم أبن ذلك على أحلام، بل على معطيات وحدة وأصالة الشعب. ففي محرم هذا تصدى شيعة العراق للتجاوز الإيراني في الفكة بطريقة جعلت الذين أصيبوا بالصمم والبكم من المسؤولين ومن منابر تحريض وممن أوصلتهم القوائم المغلقة إلى مواقع يصدحون منها بالتحريض في أسوأ حال. وما سمعنا وقرأنا عن هتافات مليونية، وقصائد ضد المفسدين والصامتين عن التجاوزات الإيرانية، وما ظهر من تصريحات ومواقف صلبة من شيوخ ميسان وغيرها من مدن الجنوب وتلاقت معها مواقف الأنبار وصلاح الدين والموصل، يؤكد أن العراق عائد إلى أهله والانتخابات ستكون محطة مهمة.

أما الذين أصبحوا كالببغاء يرددون عبارات «حرب العراق على الجمهورية الإسلامية في إيران» فقد استعاروا هذه المرة عبارات بائسة تتهم من يسمونها قوى التأزيم بالبعثية، لأن البعثية تهمة في قاموسهم الذي سطروه في القتال كتفا إلى كتف مع الباسداران ولم يتخلوا عن مواقفهم بعد التغيير.

عراق اليوم لا يمتلك قدرة الرد العسكري الشامل على تصرفات القيادات المتسلطة في إيران، ولست بصدد تأييد مثل هذا الفعل، لكن من حق العراقيين وواجبهم الدفاع عن مصالحهم ووجودهم. وما دامت الوسائل الأخرى كفيلة بتحقيق الهدف، فلا ضرورة للتفكير في خيارات ترتقي إلى مستوى الحرب أو العمليات القتالية الأضيق نطاقا، إلا إذا كانت نشاطات دفاعية صرفا.

على الحكومة العراقية والبرلمان نقل مسألة التفاوض لترسيم الحدود إلى حالة الجد، وكذلك استحقاقات تدفق المياه ووقف التدخل في تأجيج العنف. لا أن تعطى الفرصة لنظام ولاية الفقيه لالتقاط أنفاسه من وضعه الحرج. ومن الضروري أن لا يكون العراق رئة تنفس للنظام الإيراني لمواجهة العقوبات المفروضة والتي ستفرض عليه، وتقليص حجم الاستيراد من البضائع الإيرانية.

التجاوز عن الفكة، وترافق الاحتجاجات والمشاعر الشعبية، قدما فرصة تعبير تاريخية ليتخذ الشعب العراقي موقفا معنويا وإعلاميا بنصرة قوى المعارضة السلمية الإيرانية. ليس لاعتبارات المصالح المشتركة ولدواع إنسانية فقط، بل للتأسيس لعلاقات طبيعية مميزة مع النظام المقبل في إيران. وإذا حفرت في ذاكرة المظلومين الإيرانيين خطوط سلبية عن موقف رسمي عراقي، فالموقف الشعبي السديد قادر على علاجها في الزمان والمكان المفترضين.

الطريق الوحيد لبناء علاقات قوية مميزة بين العراق وإيران لا يمكن تعبيده إلا بإقامة نظامين علمانيين، ومثل هذا التوجه سيتحقق بمرور الوقت إذا ما تواصلت الجهود، وسيكون من أقوى عوامل الاستقرار الإقليمي. وعندئذ تتحول الحساسيات المفرطة إلى حالة إيجابية تعكس التعاون بين الشعوب بعيدا عن إثارة الفتن، وتقليب الصفحات المشرقة من الماضي لتقوية عزائم التعاون وطي صفحات الفتن. وربما سيأتي يوم قريب نسمع فيه ونشاهد عبر الفضائيات رفع صور زعماء الإصلاحيين الإيرانيين في مدن العراق بدل صور خصومهم.