والحيرة العربية أيضا؟!

TT

في الأسبوع الماضي كتبت عن «الحيرة الأميركية» حيث تبدو الولايات المتحدة كما لو كانت واقفة عند مفترق طرق لا تعرف فيه إلى أي طريق تسير. وقد لامني عدد من القراء في رسائل جاءت في بريد القراء أو جاءتني على بريدي الإلكتروني لأنني بدلا من الحديث عن «الحيرة العربية» تحدثت عن حيرة واشنطن، ولو انتظروا قليلا لربما كان شفاء للغليل. وربما تأخر الأمر أسبوعا لأن حيرتنا من شيم العرب خلال العقود الأخيرة، وربما حتى قبلها، فكل ما جرى خلال ما عرف بـ«النهضة العربية» ما بين القرنين التاسع عشر والقرن العشرين كان حيرة ما بين اللحاق بالغرب، والبعد عنه، أو القبول بالمعاصرة، والبقاء في حضن الخصوصية. وبعد ذلك استمرت الحيرة فيما بقي من القرن العشرين حين احتاروا بين المعسكرين السوفياتي والأميركي، بنفس الدرجة من الحيرة بين الرأسمالية والاشتراكية، ومن الجائز أن اليقين الوحيد الذي عرفناه هو ألا نفعل ما فعلته بقية دول العالم. ولا أزال أتذكر ذلك الانتقاد الحاد الذي جرى في الصحف العربية للنظام العالمي الجديد، أو لظاهرة «العولمة»، ومن الغريب أننا انتقدنا بشدة أحيانا «صراع الحضارات» رغم أن ذلك كان يقينا عربيا صريحا لسنوات طويلة حينما تصورنا مؤامرة عظمى لا يجد فيها العالم إلا العرب يفطرون في التآمر عليهم كل صباح. ولكنها الحيرة التي تجعل اليقين مشكوكا فيه حال تبني الآخرين له، فطالما صدق الغربيون على صراع الحضارات فلا بد أن في الأمر أمرا!

ومنذ أيام جمع السيد عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية، نخبة من المثقفين والممارسين العرب في قاعة الأندلس بالجامعة للاحتفال بعيد ميلاد الدكتور كلوفيس مقصود، المفكر العربي المرموق، والذي لا يزال يقينه في الأمة العربية يدعو إلى الإعجاب، ولكن اليقين يذوب فورا في الحيرة حال حديثه وتوضيح التباينات بين «الدولة» و«الأمة»، العربية بالطبع في كلتا الحالتين، خاصة بعد وضع كلتيهما على محك ما هو أكثر بعثا على الحيرة وهي «المواطنة» في الدولة و«المقاومة» في الصراع العربي - الإسرائيلي، وهما كما نعلم من التاريخ تضعان الدولة والأمة معا في حالة اضطراب شامل. وحينما تحدثت في الجلسة لم يسعفني الوقت لطرح ما تجسده الحيرة العربية في الحالة المصرية التي توجد فيها دولة بحق، ولكن في الوقت نفسه توجد بجوارها في غزة حالة «قومية» تعتبر أن تثقيب الحدود المصرية بالأنفاق هو واحد من واجبات مصر إزاء الأمة. الطريف في الأمر أن السيد محمود الزهار وزير خارجية الدولة الفلسطينية في غزة ذكر في تصريح صحافي أنه لا يوجد ما يقلق المصريين لأن السلاح لن يستخدم في سيناء. المهم أنه بعد أن فكت مصر حيرتها بالبدء في بناء ما يطلق عليه جدار فولاذي على حدودها، سارت المظاهرات في غزة وطهران، وغضب عرب آخرون لأنه لا يجب على الدولة المصرية أن تقف أمام مصالح الأمة العربية التي تصوغها حركة حماس وتحدد فيها توقيتات الحرب والسلام التي على مصر أن تتبعها.

كل ذلك يجعل الحيرة مكثفة في مصر وباقي العواصم العربية، فإذا استمعت إلى نداء الأمة التي صارت حركة حماس ممثلا لها بات ممكنا استدراجها إلى حرب لم تتخذ قرارها، ولا حددت مكانها ولا موعدها، ولا كان شعبها قد قرر أن يترك كل أمر آخر ويتفرغ لمساندة حركة رفضت توا المصالحة مع حركة أخرى في الدولة الفلسطينية الأخرى في رام الله. أما إذا قررت أن تتبع مصالح الدولة، وتترك الإخوة في الأمة يقررون مصيرهم بأيديهم، ويتخذون ما يشاءون من قرارات تخصهم، شكا الجميع ودمعت الأعين لأن الأشقاء تركوا الأمة محاصرة. وهكذا يصير الأمر محيرا فعلا مهما اتخذت الدولة العربية من قرارات، لأنها في كل الأحوال سوف تكون مدانة.

ولكن الحيرة إزاء القضية الفلسطينية قديمة، ومنذ أكثر من ستة عقود والفلسطينيون في حيرة بالغة بين الاعتماد على أنفسهم فينتهي الأمر بانقسامهم الشديد، أو الاعتماد على الدول العربية فلا يعجبهم ما يقدمه الاعتماد من نتائج. ونتيجة الحيرة معروفة، وهي أنه بينما تحررت كل دول العالم، فإن الفلسطينيين وحدهم بقوا دون تحرير حتى الآن. ومن الجائز أن العرب والفلسطينيين محتارون بالطبيعة، وهناك أسباب لذلك قد تعود لتعدد الولاءات بين الدولة والعروبة والإسلام، فلدى العرب نشوة وطنية، وعزة قومية، وتعصب إسلامي، يظهر بعض منها عند الحاجة أو حسب الأحوال.

انظر إلى الموقف العربي من التسليح النووي الإيراني، أو حتى إيران بصفة عامة، فلن تجد موقفا له علاقة بالجغرافيا السياسية، أو بتوازنات القوى السائدة، فمن ناحية يؤيد العرب إيران في الامتلاك «السلمي» للطاقة النووية، ومن ناحية أخرى فلن يجدوا بأسا بالتعريض بالتناقض الدولي الذي يتجاهل إسرائيل المسلحة نوويا بالفعل، وهو ما يعني أن سير إيران على طريق التسلح النووي لا بأس به ما دامت إسرائيل كذلك. ولكن معنى ذلك أن العرب يصبحون تحت التهديد النووي الإسرائيلي والإيراني معا، ومن ثم يعودون إلى استنكار تسلح كلتيهما ويدعونهما معا إلى القبول بمنطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي لن يتحدث فيها عربي مع الإسرائيليين، أما إيران فلن تمانع من الحديث مع الدول العربية عن تنسيق المواقف، ولكن العرب يعلمون أن الكلام عن الشرف ربما يخفي فعلا فاضحا.

الحيرة العربية بالغة بالفعل، وعميقة في الواقع، وهي الطريق الدائم للازدواجية العربية؛ صحيح أن العرب يتحدثون دائما عن ازدواجية المعايير عند الغرب وخاصة الولايات المتحدة، ولكنهم لا يمانعون في ممارسة الازدواجية كلما لاحت الفرصة. ولا توجد أطنان منها - أي الازدواجية - قدر ما يوجد في العلاقة مع الغرب، حيث يختلط الإعجاب والانبهار في جانب مع الشعور السائد بأن الغرب يعيش حالة انحطاط أصيلة مصدرها حضارة في طريقها إلى الأفول. وطوال التاريخ المعاصر، وأثناء الاستعمار وبعد الاستقلال، اعتمد العرب على الغرب في كل شيء، وحتى عندما جاء الصينيون بالمسبحة الصينية وفانوس رمضان الصيني، فإن الغرب وحده كان المصدر لكل ما يتعلق بالحياة، من أول السيارة والسيجارة وحتى محطة الكهرباء وآلات حفر النفط. ولكن ذلك لم يكن سببا أبدا لعلاقة طيبة، حتى عندما حدث تحالف عسكري في مواقف صعبة، تم التأكيد على انتهازية العلاقة، وما دام الأمر متعلقا بالنفط، ومصالح هنا أو هناك، فإنه لا يوجد ما يدعو إلى روابط أكثر من آنية.

وفي وقت من الأوقات ظننت أن الحيرة العربية متعلقة بالغرب أو أميركا أو إيران، ولكني وجدتها ممتدة إلى كل العالم، فقد كان الحال كذلك مع روسيا حينما كانت تقود عالما اشتراكيا، وحتى بعد أن تركت الاشتراكية كلها. أما الصين فتبدو غريبة، فرغم أن الإشادة بها تأتي في إطار النكاية في الغرب، فإن البعد الثقافي والآيديولوجي في بكين يجعل الصين حالة محيرة بالفعل، خاصة بعد أن بدأت في التنكيل بالأقلية الإسلامية لديها. ولوقت طويل كانت الهند صديقة للعرب أيام نهرو وسلالته التي حكمت الهند طويلا، ولكن مشكلة الهند أن أغلبيتها هندوس، وربما كان الأفضل أن يعود المسلمون إلى حكمها مرة أخرى، أو يختفي الخلاف الهندي مع باكستان حول كشمير وغيرها حتى يستريح الضمير العربي من هذه الحيرة القاسية بين دولتين تجمعهما ثقافة غريبة على أية حال. ولمدة طويلة طلب العرب الود من أفريقيا حتى تقاطع إسرائيل، ولكن لأسباب ليس لها علاقة بتحرير فلسطين فتر الاهتمام العربي بأفريقيا، ربما لأن العرب لم يفهموا أبدا سر هذا الولع الأفريقي بالغرب، والولع الغربي بأفريقيا.

فهل يوجد ما يربط الحيرة العربية بالحيرة الأميركية، وهل الحيرة ظاهرة عالمية لا يمكن تجنبها في أزمنة معقدة، أم أن المسألة ليست كذلك، وهناك أمم كثيرة عرفت طريقها ويقينها وسارت فيه بثقة كبيرة؟ أظن أن الإجابة محيرة للغاية؟!