القلب الضعيف

TT

في حديث مؤكد وصحيح قال سيد الخلق: «حُبّب إليّ من دنياكم: الطيب والنساء، وجُعلت قرّة عيني في الصلاة».

فالصلاة معروفة، وكذلك النساء معروفات، أما المقصود بالطيب فهو ما تَمخّض عن أي رائحة حسنة أو زكيّة، وقال عمر بن الخطاب -بما معناه لأنني لا أعرف فحوى كلامه بالضبط ولكنه قال -: لو لم أكن أميرا للمؤمنين لوددت أن أكون عطارا، إذا فاتني الربح لا تفوتني الرائحة.

وبالنسبة إليّ شخصيا بعد أن عرفت هذين القولين الكريمين أصبحت أتوق إلى كل ما ينعش خياشيم أنفي العزيز، ولكل ما يملأ صدري الضيق حبورا وابتهاجا، إلى درجة أنني ما فتئت أحترم وأتودد إلى كل شخص يحمل لقب «العطار».

ومن شدة «هوسي» هذا شددت الرحال وذهبت خصيصا إلى بلدة غراس في جنوب فرنسا وهي أشهر بلدة في الدنيا كلها في إنتاج العطور بمختلف أنواعها، ومكثت هناك عدة أيام، ولم أترك معملا إلا زرته وتجولت فيه إلى درجة أن عرقي بعد ثالث يوم أصبح ينضح «كلونيا»، ولم ينغص عليّ سعادتي تلك غير طلبي من فتاة حسناء تعمل هناك أن تشممني عطرا معينا، فامتثلت لطلبي بكل رقة ورحابة صدر آسرة، «فبخّت» من ذلك العطر قليلا على قطعة صغيرة مستطيلة في يدها، وما إن قربتها من أنفي حتى أستنشقها بعنف مثلما يستنشق البدوي مبخرة الدخون، ومما «زاد الطين بلّة» أنني من شدة الحماس قربت رأسي أكثر من اللازم، وإذا بالقطعة تدخل في طرف أنفي، وكانت النتيجة الفجائية وغير المتوقعة أن انفجرت بعطسة مدوّية تزلزلَت لها أرجاء المكان، واهتزت القوارير على الأرفف وقفزت المسكينة، وكادت تسقط على الأرض لولا أن تداركتها بيدي، غير أنها سحبت يدي سريعا عن خصرها، ونكصت على أعقابها وتركتني بعد أن حدجتني بنظرة كلها اشمئزاز.

وكلنا يعرف الاستغلال الأمثل والخبيث الذي لجأت إليه «كليوبترا»، عندما استعملت سلاحها العطري الفتّاك لتسلب بواسطته قلب «أنطونيو»، ولا زلن بنات حواء إلى وقتنا الحاضر مدجّجات بهذا السلاح الإرهابي لسلب واستعباد القلوب الضعيفة كقلبي.

وازددت ثقافة في رحلتي تلك عندما عرفت أن منتج العطور الحديثة يستلهم أفكاره وعناصر العطر الذي يبتكره من مستودع الطبيعة الهائل بما يحويه من زهور وأعشاب وجذور وقشور الأشجار والثمار والحشائش والتوابل، بل إنهم لم يوفروا حتى الحيوانات، فاستخلصوا العنبر من امعاء الحوت، والمسك من غزلان جبال الهملايا، والزباد الذي يؤخذ من حيوان صغير في أفريقيا. ويقول أرنست شيفتان نائب مدير الشركة العالمية للروائح والعطور وكبير خبراء العطور بها: «إن الطبيعة ليست إلا معملا كيميائيا كبيرا».

وقد يقضي خبير العطور - أو «الأنف» كما يسمونه - شهورا، بل أعواما في تركيب رائحة جديدة، وهو يعتمد بصفة أساسية على أنفه المدرب جيدا، ويجلس «الأنف» أمام مكتب عادي وهو يرتدي معطفا أبيض، وتحيط به ألوف من الزجاجات الداكنة المستديرة التي تحتوي على الزيوت العطرية وفوق الأرفف أو في داخل الثلاجات الكهربائية. ويزن عناصر العطر الغالية بموازين حساسة، ثم يمزجها ويشمها عدة مرات من طرف قطعة رفيعة من النشاف الأبيض.

وكل عطر ينجح ويلاقي إقبالا يفشل إلى جواره عشرات الابتكارات الأخرى.

أردت من مقالي اليوم أن أعطركم قليلا، وأتمنى أن لا يعطس أحدكم وهو يقرأ كلامي هذا، مثل عطستي غير المحترمة التي فشّلتني.

[email protected]