أسيادنا في العام الجديد من شرق آسيا

TT

بالعبارات القاسية التالية واجهت مجلة «لو بوان» الفرنسية الشهيرة قراءها مع مطلع عام 2010: «إنها المرة الأولى، منذ قرون كثيرة، التي لن ينبض فيها قلب الكوكب الأرضي، من الغرب المسيحي». كان هناك «الحلم الأميركي» وبات علينا أن نتكلم عن «الحلم الصيني». «الرعب يدب في فرنسا وأماكن غربية أخرى.. والمسألة لم تعد مزاحا». هذا غيض من فيض، مما جاء في ملف كبير أعدته المجلة عنوانه «كيف تصبح الصين الرقم 1 في العالم؟» توجت من خلاله دولة مراوغة بامتياز، تصف نفسها بأنها «نامية» ومن «العالم الثالث» كقائد جديد للبشرية.

بالفعل لم يعد الأمر مزاحا، الأرقام كلها تشير، ونحن على عتبة العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، إلى أن الصين بدأت بالفعل تقود الكوكب مع أنها تنكر ذلك. المواراة ومداراة القوة من الفلسفة الصينية، العمل في الظل والنحت في الصخر، بصمت الموات، استراتيجية بدأت تؤتي أكلها، الغرب يعلن عن إفلاس تلو إفلاس، وتصاعد في العجز، ويبيع مصانعه لدول شرق آسيا، وتنكشف قوة الصين بمعدل نمو وصل إلى 8% ومعها الهند بمعدل مشابه.

خبر اختيار دولة الإمارات لكوريا الجنوبية لإنشاء 4 مفاعلات نووية للطاقة، تصل كلفتها النهائية إلى نحو 40 مليار دولار - بحسب صحف غربية - واستبعاد تجمع شركات فرنسي - أميركي، عن مشروع هو الأكبر من نوعه في المنطقة، وقع كالصاعقة على الغرب. إشارات الاضمحلال والضمور، مقابل تصاعد الأسود الآسيوية كثيفة ومقلقة لمن تسيدوا العالم من 500 سنة. رجل الأعمال الهندي الشهير «راتان تاتا»، يقول بلهجة ثأرية مبطنة لصحيفة «لوموند» بعد أن اشترى «جاكوار» و«لاند روفر» وبدأ بمشروع سيارة «نانو» السيارة الأقل كلفة في العالم: «آسيا هي من سيسيطر على القرن المقبل». الرجل فخور بأكثر من مليار هندي، يتمنى أن يصبحوا شركاء لمليار ونصف المليار من الصينيين، فالهند ليست قوة نووية وحسب لكنها مستقبل تكنولوجي أكيد، تحاول أميركا استنزاف أدمغته من دون جدوى.

إذا كانت دول آسيوية كثيرة تزحف صوب القمة، فإن الصين تنطلق كصاروخ يصعب عرقلة مساره، كل المجالات موضع سباق حاد بالنسبة للصين، بدءا من الرياضة ووصولا إلى غزو الفضاء، أمام دهشة العالم حصلت بكين في الأولمبياد على 100 ميدالية مقابل 110 ميداليات لأميركا. وفي سبتمبر (أيلول) الماضي تحول مجسم طائرة «كوماك» الصينية المنتظرة المولد إلى «فرجة» لزوار معرض هونغ كونغ للطيران. أما «شايناوود» التي تبتغي مناطحة «هوليوود» فهذه موضع عناية كبرى من السلطات الصينية أيضا. الميزانية المخصصة للأبحاث هي اليوم 68 مليار دولار، مما يجعل الصين الرابعة في العالم، لكن عدد الباحثين في الجامعات تضاعف منذ عام 2000 فيما تطرد فرنسا آلاف الباحثين سنويا من الجامعات، بسبب الضائقة الاقتصادية.

ثمة من يتحدث اليوم عن «عصر التنوير الصيني» بسبب النهضة الأدبية والفنية التي تعيشها بكين، بحيث تفتتح المتاحف بالمئات، وتصدّر الفرق الفنية التي تحيي حفلاتها في أرجاء الأرض، وتتهافت المزادات على اللوحات التشكيلية لفنانين يقال إنهم «اخترقوا الجدران».

عجبا لهذا الغرب الذي بات يدهش بـ«تنوير» يأتيه من بلاد، هي في نظره قمعية ولا تحترم حقوق الإنسان. وننسى جميعا في غمرة الذهول، أن الصين ما قامت لولا ضربها عرض الحائط بما يسميه الغرب «حقوق الملكية الفكرية والأدبية». فالصين استنسخت كل ما حلا لها من بضائع غربية، وصدرتها وباعتها لأمم الأرض بأبخس الأثمان، حتى باتت كبريات الماركات الشهيرة في أوروبا وأميركا تذهب إلى شرق آسيا وتستنسخ نفسها هناك، لتأتينا ببضاعتها الآسيوية ممهورة بماركتها المسجلة.

تترنح المبادئ والقيم الغربية بما فيها «الديمقراطية» و«الحرية» تحت ضربات الصين الفولاذية الموجعة. حقيقة أليمة، ربما، لكثيرين، لكن الصين أرادت نموذجا لا هو بالاشتراكي ولا بالليبرالي، إنه «الموديل الصيني» الذي يضطر العالم اليوم، وبعد طويل رفض ومكابرة، لقبوله كما هو، وتشريحه وتحليله لفهم أسراره. ولعل اللغز الأكبر الذي سيجعل الصينيين بعد عدة سنوات يمشون على أرض القمر، هو الذهنية الصينية نفسها، بما لها من خصوصية يصعب على الآخرين فك شفراتها. قبل 30 سنة فقط كان الصينيون أسوأ حالا من العرب، وتحولوا في زمن قياسي إلى مشتهى الأمم. ها هم تحت حكم الحزب الواحد، يستعيدون هونغ كونغ، يمجدون ماو، ينشرون الصينية في الأرض، يفرضون مطبخهم ومنتوجاتهم ويثأرون من الغرب كله الذي استخدم أبشع السبل لتفتيتهم، وفشل. العرب خلال ثلاثة عقود انقضت طوروا نظرياتهم في محاسن التفتيت والتجزئة. وثمة اليوم من ينادي من دون خجل بفيدراليات واستقلالات ذاتية.

الغرب متضرر ويصرخ وجعا من المخالب الصينية التي تنهشه، وها هو يعترف بأن الأفول قد بدأ، ويحاول استدراك الكارثة؟ لكن أين العرب من كل هذه التحولات؟ ما مصير 300 مليون عربي، تعيش كل مجموعة منهم في دويلة صغيرة معزولة تندب حظها العاثر؟ أين يتموضع لبنان صاحب الرسالة التعددية الفريدة بطوائفه الـ17 التي يفخر بها، من الصين التي يتعايش فيها 50 عرقا من دون حروب وصراخ يملآن الدنيا نكدا؟ وما مكانة دبي من شنغهاي مثلا التي صارت بالنسبة للأوروبيين «الأرض الموعودة»؟ وهل سيبقى المصريون يتوهمون، على مدى 100 سنة إضافية، أن بلادهم هي أم الدنيا بعد أن خسروا القمح والخبز من دون أن يربحوا التقدم والازدهار؟