غسيل ذو رائحة شينة!

TT

تطور الجرائم والفساد له أشكال مختلفة، وفي السنوات الأخيرة بدأ تعبير «جرائم الياقات البيضاء» يفرض نفسه على الساحة القانونية وبقوة، وذلك في إشارة مؤكدة على ارتفاع هائل في عدد القضايا والجرائم المتعلقة بعالم الأعمال وسط المناصب العليا وكبار التنفيذيين في الشركات والحكومات.

ولعل المسألة الأخطر في عالم جرائم الياقات البيضاء هي جريمة غسل الأموال، غسل الأموال أو تنظيف الأموال كما يطلق عليها في بعض الأحيان، وهي مسألة ليست بالجديدة، فهي كانت تأخذ أشكالا مختلفة في السابق، وبدأت هذه المسألة في الظهور بشكل قوي مع تنامي نفوذ رؤوس العوائل النافذة في عالم الجريمة السفلي الأسود والمعروف بالمافيا، فهي كانت تعتمد على تجارة الكحول في السابق والعمل في الإقراض المجحف ومن ثم بعد ذلك دخلت في مجالات القمار والدعارة، وتطورت المسائل والمجالات لتصل إلى الاتجار بالمخدرات والسلع المهربة والمقلدة والأدوية المغشوشة والسلاح والذهب والماس.

ومع ازدياد حدة المجالات التي كانت تدخل في دائرة نفوذ المافيا الجديدة، ازداد الاحتياج إلى الغطاء الملائم لعملياتهم لإبعاد الشبهات وتبرير الثروات، فبدأت شركات في مجالات التجزئة «تتوسع» بجنون مع عدم وجود العوائد المباشرة من المبيعات المبررة لهذا التوسع وكذلك التوسع في مصارف غامضة الهوية وشركات تطوير عقاري تبني ولا تبيع وغيرها من النماذج المعروفة في بلدانها، في بعض الأحيان تأخذ أشكالا «عادية» جدا مثل المستشفيات والمدارس وشركات المقاولات والمساكن لأجل إبعاد العين والشبهة عمن يتعامل فيها.

ولكن مع سقوط «رؤوس كبيرة» في بلاد مثل روسيا وأميركا وإسبانيا وأفريقيا انكشفت علاقاتهم المثيرة مع رموز عالم المافيا المرعب وأنهم كانوا يقومون بتمرير بلايين الدولارات من خلال حساباتهم وشركاتهم ويقومون بكل ذلك نظير مقابل وعوائد مجزية، ولعل المثال الصارخ الأخير على نموذج من نماذج جرائم الياقات البيضاء التي سقطت وانكشف أمرها هو ما حدث للمستشار المالي ذائع الصيت، برني مادوف، الأميركي الذي أضاع ودائع بما يزيد عن مبلغ خمسين مليار دولار في أكبر عملية نصب من نوعها في التاريخ. وقد بينت بعض التحقيقات أنه كان يستخدم الكثير من العمليات المريبة من أجل مسائل تتعلق بغسل أموال الغير حول العالم أشهرها كانت شركات تعمل في إسرائيل في التجارة بالأعضاء البشرية.

هذا النوع من الجريمة شديد الخطورة وهو ينتشر بشكل واضح وفي الكثير من الأحيان عبر شركات معروفة ومن خلال أعلام في عالم الاقتصاد أو من خلال شركات صغيرة جدا لا تلفت الانتباه وتكون في شكل محلات بسيطة تبيع أبخس السلع بأرخص الأسعار أو محلات تبيع العسل والعود مثلا.

ولم يقتصر موضوع غسل الأموال على الشكل الظاهر له فقط، ولكنْ هناك جدل كبير أنه الآن بات من الممكن ربطه بقضية تمويل الإرهاب لأن حركة طالبان مثلا هي التي تصدّر زهرة الخشخاش من أفغانستان، وهي الزهرة الرئيسية المستخدمة في صناعة الأفيون المخدر الخطير (تسيطر حركة طالبان على 90% من حجم سوق الخشخاش العالمي)، وهذه الصادرات تذهب إلى السوق العالمية عن طريق المافيا في روسيا وأوكرانيا التي تعيد غسل أموال العوائد من خلال شركات وشخصيات معروفة على الساحة الاقتصادية.

العالم اليوم أمام مشكلة خطيرة اخترقت المجالات الاقتصادية السوية ولوثت السمعة وأخلت بالتوازن. غسل الأموال تطور بشكل مرعب وتحول إلى «تنظيف على البخار» في الكثير من الأحيان وإذا ما أهمل فسيهدد اقتصادات دول بأسرها.