خيار سورية.. تركي

TT

تورط الولايات المتحدة المتزايد في حرب أفغانستان، ومراوحة «الحالة العراقية» مكانها، وتفضيل بنيامين نتنياهو بناء المستوطنات غير الشرعية على بناء السلام الشرعي.. كثّر «الطهاة» في مطبخ الشرق الأوسط: فرنسا تعرض وساطتها لتسوية سلمية، وروسيا لم تتخلّ عن اقتراحها عقد مؤتمر سلام عام في موسكو، وتركيا تؤكد استعدادها للمضي قدما في وساطتها بين سورية وإسرائيل...

لا جديد تحت شمس الشرق الأوسط إلا ذلك السباق التركي - الإيراني الخفي على دور «الوسيط المسموع» على الساحة العربية في أجواء غياب مفجع لأي ثقل عربي قادر على فرض حل.

في نزاع الشرق الأوسط، كل يدعي وصلا بليلى لعلمه بأن الاستئثار بموقع «الوسيط المسموع» قد يستتبع تحوله إلى صاحب «الكلمة النافذة» في المنطقة سواء بالأصالة أم بالوكالة أم بالاثنتين معا.

ولكن إذا كان المنحى «الثوري» يفسر دوافع إيران لدخول الساحة العربية من بوابة الشعارات الرنانة، وإذا كان الواقع الجغرافي - السياسي يبرر تنافس دولتين غير عربيتين على «دور» في مشكلة عربية، فإن أبعاد التحرك المستجد لتركيا على الساحة العربية - بعد انكفائها التام عنها منذ عام 1918 - يبقى العامل الأكثر إثارة للانتباه.

لذلك يبدو لافتا ما كشفه الرئيس السوري، بشار الأسد، في أعقاب اجتماع المجلس الاستراتيجي السوري - التركي في دمشق الأسبوع الماضي، عن دور تركي في المصالحة السورية - اللبنانية التي تكلل نجاحها بزيارة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري إلى دمشق.

حتى ذلك الوقت كان المعتقد أن دبلوماسية تركيا «العربية» تقتصر على وساطتها في المفاوضات السورية - التركية غير المباشرة. ولكن دورها في المصالحة السورية - اللبنانية (التي قال الأسد إن «قلة من الناس» تعرف عنه) يعطي الدبلوماسية التركية أكثر من دور عابر في شؤون الشرق الأوسط ويحمل على التساؤل عما إذا كان هذا الانفتاح المتزايد على القضايا العربية يندرج في إطار سباق تركيا الخفي مع إيران على موقع «الصدارة» في منطقة قال الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، إن كل من يريد السيطرة على العالم عليه أن يسيطر عليها أولا.. أم يخفي «أجندة» دولية لم يحن الوقت للكشف عنها؟

قد تكون مجرد «صدفة خير من ألف ميعاد» أن يؤكد الرئيس السوري «عمق» العلاقة السورية بتركيا (إلى حد وصف إنجازاتها بأنها «أصبحت واقعا لا يمكن لأحد أن يتجاوزه بأي حال من الأحوال») في نفس اليوم الذي أعلن فيه محمود أحمدي نجاد أن إيران هي «أهم دولة في الشرق الأوسط» وبشر، في خطاب ألقاه في محافظة فارس، بأن الولايات المتحدة «في طريقها إلى الزوال».

خطاب أحمدي نجاد لم يقصر عن الإيحاء بأن إيران، بصفتها «أهم دولة» في المنطقة، تتطلع إلى خلافة نفوذ الولايات المتحدة «الزائل» - إن لم تكن تعتبر نفسها الوريث الطبيعي لهذا النفوذ - الأمر الذي يعززه سعيها لتطوير سلاح نووي ورعايتها لما يمكن اعتباره «كومنولثا إيرانيا شعبيا» في الشرق الأوسط (لبنان، اليمن، حماس، وحتى سورية) مؤهلا، إن لم يكن معدا، لأن يتحول إلى تنظيم أشبه بـ«الكومنترن» الذي شكله لينين في فجر الحركة الشيوعية عام 1919.

في ضوء المقاربتين الإيرانية والتركية المتناقضتين قلبا وقالبا لنزاع الشرق الأوسط، يصح اعتبار تمسك سورية بالدور التركي في مرحلة التفاوض «غير المباشر» مع إسرائيل، وإقرانه بالحرص على دور أميركي «مباشر» حال الانتقال إلى مرحلة التفاوض المباشر، مؤشرا على خيار واقعي على الجواد الرابح في سباق «الكلمة» على مضمار الشرق الأوسط إن لم يكن دليل قناعة واقعية مسبقة برؤية واشنطن لدور تركيا المستقبلي في المنطقة.

هل دخلت دبلوماسية سورية الشرق أوسطية مرحلة «وضع مسافة ما» بينها وبين إيران؟

الأيام وحدها كفيلة بالإجابة على هذا التساؤل وإن كان ذلك لا يبدو مستبعدا إذا تذكرنا أن النظام السوري نظام علماني في نهاية المطاف، وأن إيران لم تعد تعيش مرحلة «تصدير» الثورة الإسلامية بقدر ما تعيش مأزق الحفاظ على ما تبقّى لها منها.