كوبنهاغن ذات الأهمية الحقيقية

TT

بينما كنت أنصت إلى شرح وزيرة الشؤون الاقتصادية والتجارية الدنماركية لكيفية استغلال بلادها فرض ضرائب أكبر على الطاقة في تحفيز الابتكار بمجال الطاقة الخضراء، وإعادة تدوير العائدات الضريبية بحيث تيسر على الصناعة والمستهلكين في الدنمارك إنتاج وشراء تقنيات جديدة نظيفة، بدا الحديث برمته مقنعا وذكيا. وبدا وكأن الدنماركيين نظروا إلى أنفسهم في أعقاب الحظر النفطي العربي عام 1973، واكتشفوا أنهم معتمدون كلية على نفط الشرق الأوسط، وعليه شرعوا في صياغة استراتيجية طويلة الأمد لضمان أمن الدنمارك في مجال الطاقة وتدشين صناعة جديدة في الوقت ذاته.

وكلما أنصتّ إلى الوزيرة الدنماركية، لين إسبرسين، انصب تفكيري على وطني، حيث أخبرني سياسيون أميركيون مرارا وتكرارا أن مجرد اقتراح زيادة ولو بقيمة 10 سنتات في الضرائب على الغالون لزيادة استقلالية أميركا في مجال الطاقة وتحفيز ترشيد استهلاك الوقود «غير وارد»، باعتباره إجراء أشبه بانتحار سياسي مؤكد.

لكن الحال يختلف في الدنمارك، وعليه، سألت الوزيرة الدنماركية: «أخبريني، إلى أي كوكب ينتمي شعبكم؟»، وضحكت إسبرسين، لكنني لم أضحك. إلى متى سيمضي الأميركيون في اعتقادهم أن بمقدورهم الازدهار في القرن الـ21، بينما جميع الإجراءات المثلى ـ سواء على أصعدة الطاقة أو الرعاية الصحية أو التعليم أو العجز في الموازنة ـ تبقى «غير واردة»؟ الملاحظ أن مثل هذه الإجراءات تعرضت للنبذ من قبل تحالف خاص من جماعات الضغط التي يتوافر لديها المال، ومحاورين تلفزيونيين يعمدون إلى إضرام النيران بألسنتهم في أي شخص يجرؤ على إغضابهم، ومستشارين سياسيين ممن يحذرون من أن مطالبة الأميركيين بالقيام بأي شيء مهم، لكنْ عسير، يقضي على فرص المرء في الفوز في أي انتخابات، ومواطنين لم يعودوا حتى يطالبون باتخاذ الإجراءات المثلى لاعتقادهم أن الخطوات المثلى أصبحت في حكم المستحيل.

في الواقع، ليست هناك أفكار جيدة أثبتت نجاحها في المجتمعات الديمقراطية/الرأسمالية الأخرى باستطاعتنا إقصاؤها عن الخيارات المطروحة أمامنا، خصوصا في وقت نحتاج إلى بناء اقتصاد يقوم على المعرفة يتميز بوظائف جيدة، الأمر الذي تحاول جميع الدول الأخرى تحقيقه.

من جهتها قالت إسبرسين: «لدينا بالفعل ضرائب خضراء مرتفعة للغاية، ورغم إدراكنا أن هذا الأمر لا يحظى بقبول من جانب الدوائر التجارية والصناعية، فإنه حقق اختلافا كبيرا بالنسبة لنا. لقد أجبرت هذه الضرائب الشركات التجارية على مزيد من الترشيد في استهلاك الطاقة والابتكار، مما ترتب عليه أننا على حين غرة أصبحنا نخترع أشياء ليس غيرنا من يخترعها لحاجة شركاتنا في الحفاظ على قدرتها على المنافسة».

يذكر أن «معهد دراسات البيئة والطاقة»، وهو منظمة بحثية لا تنتمي إلى حزب سياسي معيّن، أقام مؤخرا، بالتعاون مع السفارة الدنماركية، مؤتمرا تناول الجهود التي تبذلها الدنمارك للتحول إلى اقتصاد يطلق معدلات منخفضة من الانبعاثات الكربونية. وفيما يلي بعض النقاط التي طرحها المؤتمر:

رغم أنها لا تزال تولد غالبية احتياجاتها من الكهرباء من الفحم، «منذ عام 1990، قللت الدنمارك من انبعاثاتها من الغازات المسببة للاحتباس الحراري بنسبة 14%. على مدار الفترة الزمنية ذاتها ظل استهلاك الطاقة الدنماركي ثابتا وارتفع إجمالي الناتج الداخلي الدنماركي بنسبة تجاوزت 40%. وتعد الدنمارك أكثر دول الاتحاد الأوروبي ترشيدا لاستهلاك الطاقة، ويرجع الفضل وراء ذلك إلى الضرائب المفروضة على الطاقة والضرائب على الانبعاثات الكربونية ونظام مقايضة الانبعاثات الكربونية وقوانين البناء الصارمة والبرامج البيئية. توفر مصادر الطاقة المتجددة حاليا قرابة 30% من احتياجات الدنمارك من الكهرباء، وتعد طاقة الرياح المصدر الأكبر للكهرباء من بين المصادر المتجددة، تليها الكتلة الحيوية. اليوم تدفن كوبنهاغن 3% فقط من فضلاتها، وتحرق 39% منها لتولد الكهرباء لآلاف الأسر».

من جهتها، تعمل الحكومة الدنماركية على إعادة ضخ العائدات الضريبية المرتبطة بالطاقة إلى «الصناعة، حيث تخصص نسبة كبيرة منها لتوفير دعم لجهود الابتكار البيئي»، حسبما أوضحت مونيكا براساد، زميلة «معهد أبحاث السياسة» التابع لجامعة نورثويسترن، في مقال نشرته في هذه الصحيفة بتاريخ 25 مارس (آذار) 2008. واستطردت موضحة أنه «بذلك يجري دفع الشركات الدنماركية بعيدا عن الانبعاثات الكربونية وباتجاه الابتكار البيئي، في الوقت الذي لم يسفر ذلك عن تهديد للميزات التنافسية التي يتمتع بها الاقتصاد الدنماركي».

ويشكل هذا السبب وراء نجاح الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، في بناء بعض الشركات الرائدة عالميا في مجال استغلال طاقة الرياح والكتلة الحيوية والتدفئة والتبريد وترشيد استهلاك الطاقة. والآن أصبحت التقنيات المتعلقة بمجال الطاقة تشكل 11% من الصادرات الدنماركية. علاوة على ذلك يجري استغلال عائدات الصادرات النفطية والضرائب المفروضة على الطاقة في دعم النقل العام وجهود ترشيد استهلاك الطاقة، الأمر الذي يحافظ على التكاليف التي يتكبدها المستهلكون الدنماركيون عند مستوى منخفض.

لكن من أين حصل السياسيون الدنماركيون على الشجاعة التي مكنتهم من اتخاذ الإجراءات الصائبة، حتى وإن كانت مؤلمة؟ من ناحيتها اعترفت إيدا أوكين، المتحدثة الرسمية باسم «حزب الشعب الاشتراكي»، المهتم بالبيئة، بأنه «ليس لدينا الكثير من الموارد، ولدينا في الوقت ذاته دولة رفاه علينا الحفاظ عليها. لذا، يتعين علينا التطلع نحو الأمام طوال الوقت، وعدم التشبث بالماضي. من هنا نستقي شجاعتنا، وقد عاينّا نجاح ذلك طيلة 30 عاما. إنه توجه جيد. لقد بات المقاولون الدنماركيون يتوسلون من أجل إقرار معايير صارمة على المباني لعلمهم أنه إذا تمكنوا من تحقيق ترشيد استهلاك الطاقة هنا والالتزام بالمعايير المفروضة فستصبح لديهم القدرة على المنافسة في مكان آخر في العالم بأسره».

إخواني الأميركيين، إن إخفاق قمة كوبنهاغن الأخيرة بشأن المناخ في فرض حلول لمشكلاتنا بمجال الطاقة والمناخ لا يعني أن بمقدورنا تجاهل هذه المشكلات، أو غض الطرف عن كيفية تناول دول أخرى، مثل الدنمارك، لها بنجاح. مع وجود معدلات البطالة في الدنمارك عند مستوى 4%، مقارنة بـ10% هنا، ربما حان الوقت كي نعد بعض أفكارها، على الأقل، «واردة».

* خدمة «نيويورك تايمز»