إنجازان تحققا في عام 2009 لم يحظيا بمتابعة عربية فعلية

TT

تقرير غولدستون تضاءل بريقه بعد معركة إقراره مباشرة والموقف الأوروبي حول القدس قد ينتهي إلى مجرد وثيقة تاريخية بلا أي قيمة

ربما أنه لا خلاف على أن أهم إنجازين تحققا للقضية الفلسطينية في العام الذي سيصبح راحلا أو «فارطا»، حسب تعبير أشقائنا في المغرب العربي، بعد ساعات، الذي هو عام 2009 هما: أولا تقرير القاضي اليهودي الجنوب أفريقي ريتشارد غولدستون، وثانيا القرار الهام جدا المتعلق بالقدس والمستوطنات الإسرائيلية وجدار الفصل العنصري الذي أصدره الاتحاد الأوروبي، الذي شكل أول تحول حقيقي على هذا الصعيد منذ الاحتلال الإسرائيلي لباقي ما تبقى من فلسطين في حرب يونيو (حزيران) عام 1967.

في أعقاب حرب غزة، أو في الحقيقة العدوان على غزة، الذي استمر من السابع والعشرين من ديسمبر (كانون الأول) عام 2008 حتى الثامن عشر من يناير (كانون الثاني) عام 2009 وخلف ألفا وأربعمائة شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى؛ بالإضافة إلى دمار هائل لا يزال ماثلا للعيان رغم مرور عام بأكمله، تشكلت لجنة دولية، كما هو معروف، برئاسة القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد غولدستون، وبعد تحقيق في مجريات هذه الحرب والوقوف على الجرائم التي ارتكبت خلالها أعد تقريرا ضمنه إدانة صريحة لإسرائيل وللجيش الإسرائيلي واتهاما لحركة حماس بأنها ارتكبت من الأفعال ما يمكن أن يرتقي إلى جرائم الحرب.

وبالطبع فإن إسرائيل، التي أصيبت بالذعر بمجرد تشكيل لجنة دولية لتقصي حقائق ما جرى خلال هذه الحرب، قد بادرت ومنذ اللحظة الأولى إلى مقاطعة هذه اللجنة، كما أنها حاولت منع مناقشة تقريرها في مجلس حقوق الإنسان الذي انعقد في جنيف في سويسرا في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أما حماس فإنها اتخذت موقفا سلبيا في البداية؛ بحجة أن رئيس هذا الفريق الدولي يهودي وأنه لا يمكن أن يكون محايدا ولا يمكن إلا أن ينحاز إلى موقف الدولة الإسرائيلية، لكنها ما لبثت أن غيرت موقفها هذا عندما لاحت فرصة لتحويل تأجيل مناقشة هذا التقرير إلى مبرر لشن تلك الحملة الظالمة التي شنتها على الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبومازن) وشاركت فيها، بالإضافة إلى فضائيات بعض الدول العربية وبصورة مكشوفة ورسمية وكان هدفها إسقاطه وإسقاط السلطة الوطنية.

كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبومازن) قد وافق على تأجيل مناقشة تقرير غولدستون حتى مارس (آذار) من العام المقبل؛ بناء على طلب موثق من المجموعة العربية والمجموعة الإسلامية والمجموعة الأفريقية ومجموعة عدم الانحياز، والحجة أولا أنه إذا نوقش هذا التقرير قبل إجراء التحضيرات والاتصالات المفترضة اللازمة فإنه سيفشل في الحصول على الأصوات المطلوبة لإقراره، وثانيا أنه من دون مثل هذه الاتصالات والتحضيرات سيتحول إلى وثيقة إدانة لحركة حماس التي تضمن اتهاما لها، إلى جانب اتهام إسرائيل، بأنها ارتكبت خلال هذه الحرب وقبلها أفعالا: «يمكن أن تكون بمثابة جرائم ضد الإنسانية».

المهم أن الرئيس عباس بعد أن ثبت له أن هناك أطرافا عربية وإقليمية ومعها حركة حماس قد استخدمت تأجيل مناقشة هذا التقرير، وذلك مع أن تأجيله كان بطلب عربي وإسلامي بناء على توجهات دولية، للإطاحة به وبالسلطة الوطنية بعد إدانته بـ«الخيانة العظمى»!! بادر إلى إعادة طرحه مجددا على مجلس حقوق الإنسان، الذي انعقد في جنيف نفسها مجددا في السادس عشر من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي؛ حيث اعتمد بموافقة خمس وعشرين دولة ومعارضة ست دول وامتناع إحدى عشرة دولة، ثم في السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه عرض على الجمعية العمومية للأمم المتحدة، فجرى التصويت عليه بأغلبية مائة وأربعة عشر صوتا مقابل امتناع أربعة وأربعين ورفض ثماني عشرة دولة.

إن هذا هو ما جرى، وقد جاء تصويت جنيف وتصويت الجمعية العمومية للأمم المتحدة كإنجاز فعلي حققته القضية الفلسطينية، وكان المفترض أن يجري استصدار قرار عن مجلس الأمن الدولي بتشكيل محكمة دولية لمحاكمة القيادات الإسرائيلية المسؤولة عن الجرائم التي ارتكبت في غزة، لكن هذا لم يحصل؛ فالعرب اكتفوا من الغنيمة بالإياب كالعادة، وحماس التي لم يكن يهمها ما تضمنه هذا التقرير بقدر ما كان يهمها إلصاق تهمة «الخيانة العظمى» بمحمود عباس وإسقاطه وإسقاط السلطة الوطنية، لم تعد تذكر هذا التقرير وهي أوقفت الحديث عنه وكأن شيئا لم يكن وكأن جريمة بهذا الحجم لم ترتكب.

كان من المفترض أن تكون هناك متابعة عربية ومتابعة إسلامية، لكن هذا فعليا لم يحصل؛ وذلك على غرار ما جرى بالنسبة لجدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل في الضفة الغربية؛ حيث كانت قد صدرت عن محكمة دولية بجهود أردنية إدانة لهذا الجدار، وكان المفترض أن يتابع العرب والفلسطينيون هذه الإدانة لتحويلها إلى إجراءات تنفيذية فعلية ضد إسرائيل، لكن هذا وكما هي العادة لم يحصل أيضا.

هذا بالنسبة للإنجاز الأول الذي حققته القضية الفلسطينية في عام 2009. أما بالنسبة للإنجاز الثاني، فالمعروف أن وزراء خارجية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي قد اتفقوا في ختام اجتماع لهم عقدوه في بروكسل في بلجيكا في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) على صيغة توافقية بشأن مقترح سويدي يدعو للاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة، التي يجب أن تقوم على حدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967.

وهنا، وهذه حقيقة، أنه لو لم يكن هناك قصور عربي بصورة عامة فإن هذه الصيغة التوافقية التي أدت إلى «تقزيم» الاقتراح السويدي، ما كان من الممكن أن تمررها فرنسا بمساندة إيطالية وبتواطؤ ألماني؛ خاصة لو أن العرب بادروا مبكرا إلى استخدام لغة المصالح مع هذه الدول، التي بفرض وجهة نظرها على باقي الدول الأوروبية قد حققت لإسرائيل تفادي الإشارة إلى القدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة.

لكن وعلى الرغم من هذا، فإنه لا يمكن إنكار أن هذا القرار الأوروبي حتى بالصيغة «المقزَّمة» التي صدر بها قد جاء كإنجاز تحقق للقضية الفلسطينية في هذا العام، الذي بانتهاء هذا اليوم الخميس سيلفظ أنفاسه الأخيرة، فهو أكد على عدم شرعية المستوطنات والجدار العازل، وهو نصَّ كوثيقة رسمية أوروبية على القدس عاصمة لدولة فلسطين المستقلة ولدولة إسرائيل؛ هذا بالإضافة إلى الدعوة للبدء في مفاوضات فورية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وفقا لقرارات الأمم المتحدة ومقررات مؤتمر مدريد للسلام وخارطة الطريق ومبادرة السلام العربية، تؤدي إلى قيام دولتين قادرتين على العيش ضمن حدود معترف بها دوليا وأن تقوم دولة فلسطين المنشودة على بقعة جغرافية موحدة، تضم الضفة الغربية وقطاع غزة وأن تتوفر لها شروط البقاء والاستقلالية.

والمشكلة هنا، وعلى الرغم من أهمية هذا القرار وأهمية الدول التي أصدرته، أن العرب، باستثناء بعض الاستثناءات، واجهوا هذا المستجد وكأنه لا يتعلق بقضية فلسطين، التي من المفترض أنها قضيتهم الأساسية والرئيسية، وإنما يتعلق بقضية أخرى في كوكب آخر ولا تخصهم؛ وذلك مع أن المطلوب أن يتحركوا فورا وبسرعة ويحركوا معهم المجموعة الإسلامية والمجموعة الأفريقية ومجموعة عدم الانحياز وأميركا اللاتينية لنقل هذا التطور الهام جدا، مثله مثل تقرير «غولدستون» إلى مجلس الأمن؛ ليتبنى كل ما تضمنه؛ خاصة الجانب المتعلق بحدود الدولة الفلسطينية المنشودة وعدم شرعية الاستيطان وجدار الفصل العنصري ورفض التغييرات التي تحاول إسرائيل فرضها على القدس الشرقية.

لقد كان هناك تقصير عربي لا يمكن إنكاره، كما أنه لا يمكن إنكار أنه لو بادرت الدول العربية إلى ما هو مطلوب ومفترض، إن بالنسبة لتقرير ريتشارد غولدستون أو بالنسبة للموقف الأوروبي المستجد، فإن وضع المفاوض الفلسطيني، بينما تدور أحاديث الآن عن احتمال استئناف المفاوضات في أي لحظة، سيكون أفضل كثيرا مما هو عليه الآن.