التحدث بصوت واحد.. هكذا أصبحت أوروبا أقوى

TT

اليوم، أصبح الاتحاد الأوروبي أكبر كتلة من الدول المستقلة والأكثر تكاملا بين الكتل السياسية والاقتصادية. مع تمتعه بناتج محلي إجمالي يصل إلى نحو 12000 مليار يورو، يعتبر الاتحاد الأوروبي أكبر مصدر للسلع والخدمات في العالم؛ محققا ثلث الناتج الاقتصادي الكلي للعالم، لهذا كله فإن أي حدث يؤثر في هذا الكيان ستنعكس آثاره بالتأكيد على العالم كله.

في كثير من الأحيان، يبالغ الناس بالإشارة إلى تاريخ معين، والزعم أنه في يوم كذا وكذا أو بتاريخ كذا وكذا.. تغير العالم. ومع ذلك، فإن هذا الادعاء المشكوك فيه عادة هو صحيح تماما في حالتنا هذه. ففي يوم الثلاثاء، 1 ديسمبر (كانون الأول) 2009، حين دخلت معاهدة لشبونة حيز التنفيذ، تغير الاتحاد الأوروبي، وتغير معه العالم. فقد جلب هذا التغيير المزيد من الأمل والإلهام ليس فقط لمواطني الاتحاد الأوروبي، ولكن في الواقع لجيرانه وشركائه كافة.

وبما أن الاتحاد الأوروبي قد شرع يدخل في عهد جديد، مع دخول معاهدة لشبونة حيز التنفيذ، لذا ينبغي أن نسلط الضوء على الآثار العالمية المترتبة على هذه المعاهدة وأهميتها لأصدقائنا وجيراننا في العالم العربي، وفي منطقة الخليج على نحو خاص.

فمنذ التوقيع على اتفاقية 1989 بين دول مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي والتعاون الوثيق بين الطرفين يزداد على كافة الصعد. فالاتحاد الأوروبي هو الشريك الاقتصادي الأهم لدول مجلس التعاون الخليجي والسوق الرئيسية لصادرات دول مجلس التعاون الخليجي. فعلى سبيل المثال الاتحاد الأوروبي بلغت صادرات السلع لدول الخليج من الاتحاد الأوروبي نحو 70 مليار يورو، بينما تجاوزت واردات دول الاتحاد الأوروبي من منطقة الخليج 37 مليار يورو. أما استثمارات الاتحاد الأوروبي في منطقة الخليج العربي فقد أصبحت أكثر من 2.5 مليار يورو. ولعل توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي من شأنه أن يزيد من تعزيز هذا التعاون والتبادل التجاري واسع الطيف.

ومما أسهم في تعزيز التعاون الاقتصادي وتنويعه بصورة أكبر هو زيادة التبادل الثقافي والتفاعل الإنساني المباشر بين شعوب الكتلتين. فعلى مدار السنوات الماضية، أخذ التعاون في مجالات مثل العلوم والتكنولوجيا والتبادل الأكاديمي بين الباحثين والطلبة يزداد على نحو مطرد. وأخيرا، أطلق الاتحاد الأوروبي نسخة خاصة من برنامج «إيراسموس موندوز» Erasmus Mundus العالمي لمنطقة الخليج، وذلك بغرض تعزيز التعاون في مجالات التعليم والبحث العلمي. ونحن نتطلع إلى مزيد من التعاون المثمر في المستقبل.

وسوف تسهل التغيرات التي أحدثتها معاهدة لشبونة هذه المشاركة والتعاون في المشاريع المشتركة، فالهدف الرئيس لمعاهدة لشبونة هو تطوير آليات صنع القرار داخل التكتل المؤلف من 27 دولة وجعلها أكثر كفاءة وديمقراطية.

في الواقع، فإن تاريخ التكتل المؤلف من 27 دولة يعد تجربة فريدة من نوعها، لدرجة أن الكثير من البلدان والكيانات الإقليمية أخذت تستوحي تجربة الاتحاد الأوروبي وتسعى لاستلهامها والاستفادة منها.. فحين أبصر النور أول كيان اتحادي أوروبي في عام 1957 لم يكن عدد أعضائه يتجاوز الست دول فقط، وهي الدول التي وقعت على «معاهدة روما»، واستمرت المسيرة حتى جرى التوقيع على معاهدة ماستريخت عام 1992، ومن ثم أعلن عن قيام «الاتحاد الأوروبي» بشكل رسمي، مما مهد الطريق لمزيد من التعاون في السياسات الخارجية والعسكرية والنقدية.

واليوم، وبمقتضى المعاهدة الجديدة، جرى تعيين أول رئيس للاتحاد الأوروبي، وكذلك تعيين الممثل السامي للاتحاد الأوروبي لشؤون السياسة الخارجية والأمن، الذي سيكون أيضا نائبا لرئيس المفوضية الأوروبية، مما سيجعل الاتحاد الأوروبي أقوى وتغدو كلمته مسموعة إزاء مختلف القضايا العالمية، كما سيتم تعزيز دوره في مواجهة التحديات العالمية، مثل الأزمة الاقتصادية والمالية، وتغير المناخ والإرهاب.

وسيؤدي منصب الممثل السامي للاتحاد لشؤون السياسة الخارجية والأمن إلى جعل الطريقة التي يدير بها الاتحاد الأوروبي سياسته الخارجية أكثر اتساقا وفاعلية، كما سيعمل على تعزيز دور الاتحاد الأوروبي في مجال الوساطة والتدخل لمساعدة الأطراف على التوصل إلى حل للأزمات أو الصراعات في المناطق التي تعاني من تلك الصراعات كما في منطقة الشرق الأوسط.

بالإضافة إلى ذلك فإن المعاهدة ستعزز من نفوذ المواطنين، والبرلمانات الوطنية، والبرلمان الأوروبي، وقدرتهم على التأثير في الطريقة التي يدار بها الاتحاد الأوروبي. إنه يعطي الأوروبيين القدرة على التأثير المباشر والإسهام بصورة أكبر في صياغة القرارات التي يتخذها الاتحاد.

ابتكرت المعاهدة ما يطلق عليه «مبادرة المواطنين الأوروبيين» التي تعطي الحق لأي مليون مواطن من مواطني عدد من الدول الأعضاء في الاتحاد لدعوة المفوضية الأوروبية مباشرة لطرح اقتراح تشريعي في أي مجال من مجالات اختصاص الاتحاد الأوروبي. ولا بد أن هذا النوع من المشاركة المباشرة يؤدي إلى مزيد من المشاركة والتفاعل مع المؤسسات الأوروبية متزايدة النفوذ.

كما تمنح معاهدة لشبونة البرلمان الأوروبي المزيد من القوة، مما يمكنه - بالتنسيق مع مجلس الوزراء - من اتخاذ قرارات بشأن معظم تشريعات الاتحاد الأوروبي. غير أنه، يترتب على المزيد من السلطة، تحمل المزيد من المسؤولية. فالاتحاد الأوروبي بأجهزته الجديدة سيكون أكثر عرضة من ذي قبل للمساءلة والمحاسبة من قبل مواطني الاتحاد.

ختاما، ينبغي التأكيد على أنه، مع التغيرات الهيكلية للاتحاد الأوروبي وأجهزة صنع القرار لديه، بعد أن دخلت معاهدة لشبونة حيز التنفيذ، أضحى الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي أكثر قدرة على مواصلة التعاون بينهما في شتى المجالات وعلى دعم وتعزيز جهودهما المشتركة.

فمن حيث أننا جيران وأصدقاء، فإنه ينبغي العمل على توثيق عرى التعاون وتبادل الخبرات وتعزيزها في جميع المجالات، السياسية والاقتصادية والثقافية، فمع وجود صوت أوروبي موحد سيغدو الاتحاد الأوروبي شريكا أكثر فاعلية لدول الخليج، بحيث يمكنها الاعتماد عليه والثقة به بصورة أكبر من أي وقت مضى.

* رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي لدى السعودية

سفير السويد

سفير إسبانيا