الفساد تربية وتراث

TT

تحاول سائر الحكومات العربية اجتثاث ظاهرة الرشوة والفساد. لا أدري كيف ستنجح في مسعاها فالفساد مثل الأفيون، إدمان يصعب التخلص منه. ومن الجليّ أنه يرتبط ارتباطا وثيقا بالتربية والتراث. وكم أعاني شخصيا في أمره عندما أحذر إخواني العرب من محاولة رشوة الأطباء والمحامين والمسؤولين الإنجليز بتقديم هدايا لهم. ففي أغلب الأحيان الهدايا مجرد تسمية مؤدبة للرشوة. والإنجليز غير معتادين عليها. يتسلمونها تأدبا ويحتقرون المهدي في قرارة قلوبهم. لم أسمع عن أي موظف بريطاني يتسلم رشوة من مراجع حتى قرأت مؤخرا أن رجلا لبنانيا استطاع إفساد أحد موظفي دائرة السفر والجنسية وحصل منه على جوازات سفر مزورة لقاء رشوة. لنا تراثنا وخبرتنا في الموضوع ولهم تراثهم وتربيتهم.

مررت بتجربة طريفة قبل بضعة أيام في هذا الشأن. كنت قد زرت طبيب العائلة لاستشارته. سألني في أثناء قيامه بالفحص ما إذا كنت ما زلت أواصل الكتابة. قلت: «نعم. الكتابة مرض آخر مزمن عندي وقد نشرت رواية مؤخرا سأهديك نسخة منها بمناسبة الكريسماس». شكرني وقال: «سأستمتع بها في إجازة الموسم».

بعد بضعة أيام، سمعت بأن ولدي نائل يستعد لزيارة نفس الطبيب لاستشارة طبية. هُرعت وجئت بنسخة من الرواية، وقّعت عليها بالإهداء ووضعتها في مظروف وطلبت من نائل أن يأخذها معه للدكتور كما وعدته بها.

تدخلت أم نائل في الموضوع فورا وقالت: «كلا. لا تطلب من نائل أن يحملها له». سألتها: «لم لا؟»، قالت: «إنه ذاهب إليه في استشارة طبية. تقديم هذا الكتاب، هذه الهدية، للدكتور توحي وكأن نائل يريد منه أن يعامله معاملة خاصة، يمن عليه بشيء. هذا غير صحيح. لا تعلم ابنك على هذه الأساليب». وأضافت فقالت: «إذا كان الدكتور يريد قراءة روايتك حقا فيستطيع أن يشتريها من السوق. وإذا أنت أردت أن توفر عليه هذه المشقة فابعث له بالكتاب بالبريد».

أعدت الكتاب إلى مكانه على الرف وجلست كعادتي أتأمل في هذا الحدث الصغير ومدلولاته. وقادتني خواطري فتذكرت كيف امتعض سفير عراقي عندما اكتشف أن رئيس إحدى الحكومات العربية قدم له ساعة في أحد المراسم الرسمية كهدية دون مستوى الساعة التي قدمت للسفير البريطاني فأثار زوبعة في الموضوع واتهم الموظف المسؤول عن توزيع الهدايا باستبدال ساعة أرخص بالساعة الثمينة!

والحديث يجر إلى حديث. قرأت في الوثائق البريطانية المراسلات الطويلة المتعلقة بهدية تسلمها دبلوماسي بريطاني من أحد الحكام العرب. كتب للخارجية يستفتيها ويقول إنه كموظف بريطاني لا يجوز له قبول هدية. ولكن العرب سيستاءون جدا إذا رد الهدية. فما العمل؟ بعد كثير من التمحيص والتفكير جاءه الجواب. عليه أن يثمّن هذه الهدية ثم يشتري حصانا بثمنها تماما وينتظر فرصة مناسبة ليهدي ذلك الحصان إلى ذلك الحاكم!