مستعدون للملاحظات حول منهجنا وعلمائنا.. ومستعدون للتوضيح

TT

«مستعدون لتقبل الملاحظات حول منهجنا وحول علمائنا ومستعدون لمناقشة ذلك والرد عليه».. هذه كلمة قالها الأمير نايف بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية السعودي، من خلال حفل جائزة للسنّة النبوية تحمل اسمه. ولقد سمعنا منه - غير مرة - قوله: «إذا كانت الملاحظات موجهة إلى تطبيقنا للإسلام فإننا نقبل ذلك لأننا بشر نخطئ ونصيب في التطبيق. أما إذا كان النقد موجها للإسلام ذاته فهو نقد مرفوض جملة وتفصيلا لأن أي إنسان مهما كان لا يحق له أن ينتقد ما شرعه الله ورسوله».

وهذا كلام خليق بالتعليق والمناقشة والتحليل:

أولا: لأنه موضوع يتعلق بالإسلام وتطبيقه وهما قضيتان مختلفتان جدا.. فالإسلام هو (قال الله قال رسوله)، وهو قول معصوم من الخطأ.. أما التطبيق فهو (اجتهاد بشري) قد يصيب وقد يخطئ، وإذا توافر الإخلاص، فإن صاحب الاجتهاد في الحالين مثاب: بنص الحديث النبوي الصحيح: «إن اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر».

ثانيا: لأن هناك خلطا - متعمدا أو جاهلا - بين الإسلام والتطبيق: ولأن هناك - بالتالي - من يتخذ الخلط (مطيّة) لنقد الإسلام ذاته ونقض شرائعه: بجهالة أو بلؤم.

ثالثا: لأن الأمير نايف عُرِف بالصراحة والوضوح: يطرح الأمور بلا غموض ولا إبهام.

في ضوء هذه المعطيات: نناقش ما طرحه الرجل (بصراحة ووضوح أيضا) من خلال محورين اثنين:

1- المحور الأول هو: النهج أو المنهج الذي تأخذ به المملكة العربية السعودية على مستوى الدولة والمجتمع، وهو منهج الإسلام - كتابا وسنة -.. بنص ميثاق الأمم المتحدة فإن لكل أمة أن تختار من التشريعات ما تريد لأن الاختيار التشريعي يدخل في صميم استقلالها وسيادتها وشخصيتها المعنوية الخاصة.

يقول الزعيم الأمريكي الكبير توماس جيفرسون: «كما أن الحكومة بحاجة إلى دستور فوق القوانين يكبح جماحها، فإن الناس يحتاجون إلى (مصدر فوق البشر) يدفعهم للحفاظ على حقوق الآخرين حتى إن كان ذلك ضد مصالحهم».. وهذه الاستشهادات للاستئناس، ولتقريب المفهوم المقصود فحسب، وإلا فإن خيار المملكة التشريعي قائم على عقيدة هي ليست موضع مزايدة ولا مساومة ولا مقايضة: «قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون».

وهذه حقيقة توجب علينا: أن نعين من يريد فهمنا: على فهمنا، ومن الإعانة على فهمنا: أن يعرف هؤلاء الراغبون في الفهم أو في المزيد من التفهم لنا: أن في الإسلام نظام حكم هو نسيج وحده.. وأن أصل الأصول في ذلك ومناط الأمر وجِماعه - ها هنا - هو: أن الله خلق الناس لعبادته وتوحيده.. وليس لله حاجة في ذلك، إذ هي عبادة تنفع الإنسان ذاته وتسعده وتحييه حياة طيبة.. ولا تصح العبادة، ولا يصح التوحيد إلا باتباع ما شرع الله. فالتشريع (الأصلي) من خصائص الألوهية.. والاستجابة له شرط صحة في التوحيد والإيمان: «اتبعوا ما أُنزِل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء». ولتحقيق هذا المقصد الأسمى (أي لكي يتكامل التوحيد بالاعتقاد مع التوحيد بالتشريع) أنزل الله شريعة الإسلام وأتمها وأكملها: ابتغاء: أن يَخلص الإنسان لله خلوصا تاما بالتحرر من (الشرك التشريعي)، ولذلك تنزلت آيات بيّنات لتقرير هذا الأمر تقريرا يقينيا لا مرد له.. ومن هذه الآيات: «وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم».. «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما».. «ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون».

وعلى هدى من هذه النصوص - ونظائرها - أسس الملك عبد العزيز دولته، وكان في ذلك واضحا أشد ما يكون الوضوح.. وهذه جملة من أقواله توثق هذا الوضوح المنهجي عنده.. قال: «إن مصدر التشريع والأحكام لا يكون إلا من كتاب الله ومما جاء عن رسوله عليه الصلاة والسلام، أو ما أقره علماء الإسلام الأعلام بطريق القياس أو أجمعوا عليه مما ليس في كتاب ولا سنة، فلا يحل في هذه الديار إلا ما أحله الله، ولا يحرم فيها غير ما حرّمه».. وقال: «إن الشريعة الإسلامية هي القانون العام الذي يجري العمل وفقه في البلاد المقدسة، وإن السلف الصالح وأئمة المذاهب الأربعة قدوتنا في السير على الطريق القويم، وسيكون العلماء المحققون المرجع لكل المسائل التي تحتاج إلى تمحيص ونظر ثاقب».. ولقد تحولت هذه الأقوال إلى ما عُرف بـ(التعليمات الأساسية) التي أديرت على أساسها الدولة والمجتمع.. ولقد أُصِّل ذلك كله في النظام الأساسي للحكم الذي تنص المادة (7) منه على أن «يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة».

والخلاصة المركبة هي: أن السعودية تؤمن بعقيدة التوحيد، ومن لوازم هذه العقيدة: توحيد الله بالخضوع لشريعته.. ويستوجب توحيد الله بالتشريع: وجود نظام سياسي يطبق شريعة الإسلام، ويبايع مَلِكهُ على ذلك.. ويستلزم تطبيق الشريعة - بداهة - وجود قضاء يحكم بما أنزل الله، كما نصت المادة (1) من نظامه: «القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية».

ويتوجب التوقف عند هذا المقطع من السياق لاجتلاء حقائق ثلاث جد مهمة:

أ- حقيقة أن (الشريعة الإسلامية) واتّباعها: أمر مُخاطَب به المسلمون في كل عصر ومكان (لا السعوديون وحدهم) لأن الإسلام خطاب عام لكل من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.. فهذه - من ثم - (قضية إسلامية عامة).. لا (قضية سعودية خاصة)، والدفاع عنها واجب على كل مسلم، ولا سيما علماء الإسلام.. مثلا: «ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون»: تكليف يعم المسلمين كافّة.. ومن هنا، فإن من يعيب على السعوديين أخذهم بشريعة الإسلام، فإنما يعيب على المسلمين جميعا كونهم آمنوا بهذه الشريعة وتلقوها بالقبول والرضا.

ب- الحقيقة الثانية: أن الأخذ بالشريعة لا يغلق أبواب الاجتهاد والتطوير، بل إن الفهم الصحيح للشريعة يفتح للمسلمين مساحات لا نهاية لها من الحراك الفطن، والتطوير المتزن، والنهوض: المتصل الحلقات، المتوقد الوَثَبات.. يقول الفقيه المالكي (القرافي).. :«اعلم أن التوسعة على الحكام في أحكام السياسة (أي السياسة الشرعية) ليست مخالفة للشرع، بل تشهد لها القواعد الشرعية من وجوه منها: أن الفساد كثر وانتشر بخلاف العصر الأول، ويقتضي ذلك اختلاف الأحكام بحيث لا يخرج عن الشرع بالكلية لقوله عليه الصلاة والسلام (لا ضرر ولا ضرار). وترك هذه القوانين «!!!!» يؤدي إلى الضرر، ويؤكد ذلك جميع النصوص الواردة في رفع الحرج».. والحق أن الدولة عندنا منحازة - بإطلاق - إلى التقدم.. والحق أنها تسبق العلماء والمثقفين إليه دوما.. تفعل ذلك بحكم فهمها لإسلامها السمح.

ج- الحقيقة الثالثة هي (الانسجام) بين (المنهج) وبين (الجغرافيا الخاصة) التي يقوم عليها النظام السعودي، ونعني بالجغرافيا الخاصة: ولاية النظام السعودي على الحرمين الشريفين - في مكة والمدينة -. فالمسؤول عن هذه الولاية لا بد أن ينهج نهجا إسلاميا في حكمه من حيث أنه يتولى شأن مقدسات إسلامية: لا يصح أن يتولى أمرها نظام غير إسلامي «إن أولياؤه إلا المتقون» كما قال تعالى عن المسجد الحرام: (التقوى بمفهومها الواسع هنا).

2- المحور الثاني - بعد النهج أو المنهج - هو محور (التطبيق).. وفي قضية التطبيق: زاغ طرفان: طرف ينزع الصفة الإسلامية عن النظام بسبب أخطاء في التطبيق، وهم الغلاة التكفيريون، وهذا تصور أو حكم موغل في البطلان، لأن التكفير بالأخطاء - بل بالذنوب - موقف باطل وقفه الخوارج والمعتزلة. أما أهل الحق فلا يكفّرون أحدا - فردا عاديا أو حاكما - بمعصية أو ذنب أو خطأ: ما دام التوحيد معلنا، وما دامت الشريعة هي السائدة على التشريع، وما دامت البيعة تنعقد على ذلك.. والطرف الثاني هو الذي يصور النظام السعودي وكأنه (الخلافة الراشدة)!!.. وهذا غلو، إذ ينقصه العلم والأمانة والحصافة والورع من جانب، فإنه - من جانب آخر - يؤذي النظام نفسه أيما إيذاء (وهو غير محتاج إلى المدح الغالي).. فتصوير النظام في هذه الصورة (المثالية) يحدث فجوة ذهنية كبيرة بين الواقع والمثال، وهذه الفجوة تحدث هزة نفسية في الناس يستغلها المرجفون الغلاة في تصوير الدولة في صورة سوداء - بالمقارنة بين الواقع والخيال -، كما يستغلها خصوم النظام السياسيون من كل اتجاه معاد.. ثم إن هذه (مثالية) مفروضة على النظام!! بمعنى أنه لم يدّعِ ذلك قط لأنه أعقل من أن يتحمل ما لا يطيق وما لم يكَلّف به - لا عقلا ولا شرعا -.

وبإسقاط رؤى هذين الطرفين الغاليين: يتضح الاتجاه الوسط والواقعي وهو: أن النظام السعودي نظام إسلامي بشروطه الشرعية المعتبرة وأهمها: العقيدة، والشريعة، ووحدة الجماعة، ومبايعة ولي الأمر على ذلك.. ومما لا ريب فيه أن أخطاء عديدة وقعت ولا تزال تقع في أثناء التطبيق.. والمهم - من قبل ومن بعد - أن يظل المعيار باقيا، والمنار قائما: لتقويم المسيرة بصفة دورية: ابتعادا عن الأخطاء والخطايا وفق الاستطاعة، واقترابا من الصلاح المستطاع: وفق الاستطاعة أيضا.

ولقارئ أن يسأل: وأين نقطة الحديث عن (العلماء) - التي وردت في العنوان - ؟.. والجواب هو: أنه يبدو أن الحديث عن العلماء - ما لهم وما عليهم - يستحق مقالا مستقلا، نأمل أن يكون قريبا بتوفيق الله.