أفسدوها؟ صلحوها!

TT

الحديث عن محاربة الفساد والتصدي له بقوة مسألة مهمة وينشدها كل مخلص وصادق، وخيط رفيع جدا بين أن يكون ذلك شعار مرحلة أو امتصاص الغضب الشعبي، وبين أن يكون الأمر مبنيا على منهجية متكاملة وهيكلة شاملة.

اليوم تشهد الساحة السعودية حديثا «لافتا» عن محاربة الفساد بعد الخطاب الملكي التاريخي لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي جاء رد فعل نتاج كارثة سيول جدة والضحايا والسلبيات المرعبة التي نتجت عن ذلك، وحدثت تبعيات غير مسبوقة للتعامل مع الوضع مثل تشكيل لجنة تقصي حقائق مكونة من عناصر مختلفة وتعويضات مالية، وتلا ذلك سلسلة من التوقيفات بحق مسؤولين حاليين وسابقين. ويترقب الناس باهتمام شديد نتائج التحقيقات ونوعية العقوبات التي ستصدر بحق من يثبت عليهم التجاوزات.

السعودية تدخل منطقة غير مسبوقة، عقاب المفسدين غاية منشودة ولا ريب، ولكن يبقى الاهتمام بالكيفية التي ستتم بها لأن «نتيجة» ما ستؤول إليه تحقيقات كارثة جدة ستوجد سابقة في غاية الأهمية وتؤسس أرضية وبيئة قوية للتعامل مع قضايا الفساد الموجودة في مناطق وقطاعات أخرى.

هناك اجتهادات يدلى بها في ساحات الإعلام اليوم عن خيارات العقوبات الممكنة، بل هناك رأي شرعي قدّم القتل تعزيرا لمن تثبت عليهم الإدانة المباشرة في التسبب في وفيات كارثة جدة، مع عدم إغفال مستويات المشاركة الثلاثة في المشكلة، هناك مستوى الإدارة العليا وهي الجهة المشرفة على الدائرة الرسمية المعنية بالموقع أو بالمشروع، وهناك التنفيذ وهو المستوى المعني بالإشراف الفني على المشروع من قبل الإدارة، وهناك مستوى ثالث وهو مستوى المنفذ نفسه سواء أكان استشاريا أو مقاولا أو مورّدا، والذي «يفصل» على حسب «التصميم» الذي يقدم له، بمعنى بقدر «القماشة» المتوفرة تتم «الخياطة».

وعليه سيكون الدخول في جدل مهم يتعلق بنسب وأحجام المسؤولية لكل مستوى على حدة، وطبعا لا يمكن إغفال مسؤولية الإهمال الذي كان موجودا من الجانب الرقابي على المشاريع وتنفيذها وتحديدا من الجانب المخول بذلك.

المواطن ببساطة لديه مطلبان رئيسيان: الأول التحقيق العادل والسوي والكامل مع الأطراف المتسببة في الكارثة وإيقاع العقوبة العادلة والمناسبة على الجناة والمسؤولين عن ذلك. ثانيا تنفيذ المشاريع كافة المتأخرة والمطلوبة، وكلا الطلبين فيهما ضمانة - فيما لو تم إنجازهما بشكل متوازن - أن لا تتكرر نفس الكارثة بنفس أبعادها مرة أخرى، وهذا في حد ذاته إنجاز ممتاز.

الكوارث جزء من طبيعة هذه الأرض، ولكن غير الطبيعي هو رداءة التعامل معها وإنكار حجم المشكلة ومحاولة تغطية الواقع البائس والحزين بدلا من الإقرار والاعتراف بما حصل وإظهار التعاطف الجاد وتحمل مسؤولية القصور ومواجهته وعرض الحلول ومعاقبة المسؤول وإنجاز ما هو مطلوب. بقاء الحال على ما كانت الأمور عليه لم يعد مقبولا. «كارثة جدة» ستكون في ذهنية الناس وبشكل لا إرادي تاريخا مفصليا وسقف التوقعات لدى المواطن رُفع إلى درجات عالية إيمانا برسالة خادم الحرمين الشريفين في ملاحقة ومعاقبة «أي من كان» مسؤولا عن الكارثة وتبعاتها.

ولذلك، الحل النهائي والاقتراح الأخير الذي سيقدم من قِبل اللجنة ينتظره الناس بلهفة وتعطش لأنه لن يكون بلسما للجراح إلا إذا كان الحل كاملا وشاملا وعادلا. كارثة جدة كانت عنوان الفساد، نتائج تحقيق اللجنة المعنية والمشكَّلة لمعرفة الحقيقة ستكون بداية إصلاح وضع إداري مرعب لن يستقيم إلا بعلاج شامل وسويّ، وهو مطلب الكل.

[email protected]