لـم نكن يوما أشرارا

TT

في الساعة الثامنة إلا الربع من صباح يوم الجمعة 24 يناير (كانون الثاني) 1991م، كنت ضيفا على القناة التلفزيونية الفرنسية الثانية، في برنامجها الصباحي الشهير (الحقائق الأربع) الذي يقدمه الصحافي الفرنسي السيد غيرار لوكلير.

بادرني الصحافي بقوله: إذن، سيدي السفير، لا بد أنك قد استيقظت هذا الصباح وأنت سعيد!

سألته لماذا؟

قال ألم تسمع الأخبار، ألم تسمع بالطيار السعودي الذي دمر في الجو، يوم أمس، طائرتين عراقيتين، وهما تحاولان الإغارة على مدينة الخبَرْ السعودية.

قلت بلى. سمعت هذا الخبر، ولكني استيقظت مهموما ولم أستيقظ سعيدا يا سيدي.

قال لماذا. قلت له إنه لأمر مفجع، حزين، أن يتقاتل طيارون عرب، في سماء عربية، فوق أرض عربية. ولم نكن لنجرؤ يوما على أن نتصور أن يحدث أمر مفزع كريه كهذا!

قال بإمكاني أن أفهم ذلك.

وما أن عُدْتُ لمكتبي إلا والنداءات الهاتفية تتواصل تعقيبا على هذه المقابلة.

البعض أثنى على موقف السفير.

والعديد من أبناء الجالية العربية أخذ على المذيع ما وصفه بسؤاله «الاستفزازي الماكر الخبيث».

إلا إن أكثر ما استوقفني من تلك الاتصالات ما أتى عليه جزائري مقيم في فرنسا عندما قال «لقد ظلمناكم يا سعوديين.. فقد كنا نحسبكم أشرارا»!

كانت عبارة قاسية مثيرة للمرارة والغضب، رغم ما قد يوحي به ظاهرها من الرجوع عن موقف ازدحم بمشاعر التحامل والجهل بما كانت عليه سياسة بلادي.

وفي مواجهة هذه الصراحة الفظة كان لا بد من أن أتساءل هل كانت إجابتي الواثقة، وبحسها القومي الصادق، كافية لأن تجعل، في ميزان ذلك الجزائري ومن شاركه قناعاته، من بلدي أمة من الأكابر الأخيار، وقد كانت في نظرهم شعبا من المكرة الأشرار؟!

وهل كان أبناء الجالية المغاربية في فرنسا ينتظرون من سفير المملكة العربية السعودية، في ردّه على المذيع، أن يزهو، وأن يهلل، وأن يباهي لأن طيارا سعوديا شابا شجاعا اسمه عائض الشمراني قد دمر في الجو طائرتين عربيتين، وهما تحاولان، بأمر من الرئيس صدام حسين، الإغارة على بلد عربي كان بلد المساندة، والدعم، والإنقاذ للرئيس في حربه مع إيران؟!

كان موقف الجالية العربية المغاربية في فرنسا - ومعذرة لمن قد تجرح الصراحة مشاعرهم - من غزو العراق للكويت أمرا يفجر القهر في النفوس، ويذهب بالعقل السوي! كانوا يتعاطفون مع الرئيس صدام حسين في غزوه للكويت! ويرون فيه بطلا تحدى الغرب والشرق معا، كأنه ما احتل بلدا عربيا صغيرا، وألغى وجوده السياسي وشرد شعبه، بل كأنه استعاد للعرب فلسطين!!

كان في موقفهم هذا تنفيس أحمق، غير بصير، عن مشاعر الاستعلاء العنصري الذي كانوا يعانون منه في علاقتهم مع الغرب. كما كانوا يرون في ذلك (الغزو الآثم) ثأرا للعربي المعدم، الصابر، الفقير من العربي المتعجرف الثري، المسرف في عجرفته وثرائه!

كان صدام حسين، إذن، بطلهم ورافع هاماتهم!

لقد انتهت بهم قناعاتهم هذه لأن يتعذر عليهم، وهم في موقف المساندة المنفلتة العمياء، لصدام حسين، أن يفهموا حقوق الدفاع الشرعي عن الوطن. كانوا يرون في استعانة المملكة العربية السعودية بالدول العربية والغربية والإسلامية ضلوعا مع الغرب في سعيه الرامي لتحجيم بطلهم صدام، وإذلاله، بطرده من الكويت!!

إذن، عليهم بمناصرة الرئيس!

كان السعوديون، في نظرهم، أشرارا لسماحهم للقوات الدولية المرابطة على حدود بلادهم الشمالية، دفاعا عن النفس، وحشدا عسكريا لتحرير الكويت. فالسعوديون، إذن، دعاة حرب على المسلمين!

كيف لهذه الجالية المغاربية أن تعلم أن المملكة العربية السعودية هي أول من نقل قضية الثورة الجزائرية للمحافل الدولية، بعد شهرين من انتفاضتها، لتجعل منها قضية شعب عربي مسلم مقهور ينتفض لاسترداد وطنه وليست ثورة عصاة متمردين كما كان يحلو لفرنسا الاستعمارية تسميتهم. فقد بعث رئيس مجلس الأمن السيد ليسلي مونرو إلى مندوب المملكة العربية السعودية الدائم في الأمم المتحدة الشيخ أسعد الفقيه رسالة جاء فيها:

أتشرف بإخباركم بوصول كتابكم المؤرخ في 5 يناير 1955م وإفادتكم أنه طبقا لرغبتكم سيجري تقديم نص كتابكم مع مرفقاته إلى أعضاء مجلس الأمن باعتباره من وثائق المجلس التي سيشار إليها برقم س/1/2241. وتفضلوا بقبول فائـق الاحترام،،،

ليسلي مونرو

رئيس مجلس الأمن

كانت هناك أيضا مقابلة تلفزيونية أخرى مع القناة الفرنسية الثالثة في الأسبوع الأخير من شهر أغسطس (آب) 1990م.

أراد المذيعان السيد جيل شنايدر، والسيد كريستيان مالار، أن يستدرجاني لموقف انفعالي أنهال من خلاله على الرئيس صدام حسين بالتعريض الشخصي، وكان صدام قد أصدر، قبل أيام، قرارا بضم الكويت للعراق واعتبارها القضاء العراقي التاسع عشر!!

قلت لهم ليس من خلق القادة السعوديين أن يطفئوا غضبهم بعبارات نابية وقول جارح. ليس هذا من شيمهم، ولن يكون في موقفي هذا المساء خروج على تلك الشيم. وأربأ بنفسي أن تتناول بما لا يليق رئيس دولة عربية من قناة تلفزيونية غربية أيا كان خلافنا معها.

شاهد هذه المقابلة الملايين من العرب في فرنسا، وفي بلاد المغرب العربي. كانت في ساعة من ساعات الذروة في كثرة المشاهدين.

وهنا أيضا لم أكد أعود لمنزلي إلا والاتصالات الهاتفية تتوالى. كان أول المتحدثين السيدة علياء الصلح الكاتبة اللبنانية وابنة الزعيم اللبناني الراحل رياض الصلح، رحمها، ورحمه الله. والصديق الدكتور بطرس ديب سفير لبنان رحمه الله.

كان الاثنان على موقف مغاير لموقف بلادي من غزو الكويت.

كان في تعليقهما على حديثي ثناء على موقف اعتبروه انتصارا على مرارة الحدث، وترفعا، ورفضا لمحاولات الاستدراج والصيد في الماء العكر. لا سيما وأنا أتحدث من خلال قناة أوروبية وفي بلد أوروبي لديه من المآخذ على العرب، كما قالوا، الشيء الكثير.

كان في لهجة الصديقين، رحمهما الله، ما يوحي بأن ردي على الصحافيين، ربما كان استثناء مما اعتاد عليه السعوديون! ويقيني أنهما لم يكونا يعرفان ما كانت عليه الحال في أعوام الستينات من القرن الماضي عندما بلغ الخلاف السياسي بين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والملك فيصل بن عبد العزيز، رحمهما الله، ذروته، حول قضية اليمن، وانفلات وسائل الإعلام المصرية في حملات لا ضابط لها، على المملكة العربية السعودية وقادتها.

ومثلما كان موقف الملك فيصل بن عبد العزيز ضبطا كريما للنفس، وصبرا على جنوح تلك الحملات، كان، أيضا، موقف الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله، وهو يتصدى، على كره منه، لتداعيات غزو العراق للكويت، وما اقترن بها من حملات تضليل تكفلت بها وسائل إعلام الدول العربية الموالية في موقفها للعراق.

لم أكن في هاتين المقابلتين إلا معبرا عن أخلاقيات شعب توارث القيم الزكية أجيالا بعد أجيال، وعن سياسة دولة ظلت على ثباتها في مواقف التعقل والحكمة والحرص على أن تكون في سلام مع الجميع.

الإنسان السعودي هادئ بطبعه، يكره الصخب، قليل الكلام، معتدل النبرة، مُتسامِحْ في مواقفه مع الآخرين إلا ما كان استثناء من ذلك. تكونت هذه الخصال الطيبة لدى الإنسان السعودي تأثرا بالبيئة المحيطة به، في المنزل، والمدرسة، والعمل. فهو يعيش في عالم تشكل فيه مظاهر العبادة لله جل حياته، وفي بيت محافظ قل أن يرتفع فيه صوت من أصوات ساكنيه، ملتزما بقيم الصدق، ورعاية الجار، والتواصل الأسري، وما إلى ذلك من مكارم الأخلاق.

ولا يمكن لدولة هذا شعبها أن تسير على نقيض ما التزم به هذا الشعب وارتضاه. إنه شعب تقي، رصين ينأى بنفسه عن كل ما قد يؤذي الآخرين، يريد العيش في وفاق مع الجميع. تمثله حكومة تدرك عظم مسؤوليتها إزاء العالم الإسلامي وترى في هذه المسؤولية حصنا يقيها احتمالات الحسابات الخاطئة. فهي لم تكن يوما بادئة بالعدوان، تصبر على التجاوزات، حسما للشر، إلا ما كان فيه نيل من سيادة الوطن ومصالح المواطنين.

وعندما عينت وزيرا للإعلام في شهر مارس (آذار) 1963م، كان أول توجيه صدر لي من الأمير فيصل بن عبد العزيز إعداد بيان يعلن عن قرار المملكة العربية السعودية إيقاف الرد على حملات إعلام الرئيس الراحل عبد الناصر على المملكة.

كانت الإذاعة السعودية قد اندفعت، من حيث لا تريد، في الرد على حملات القاهرة. وكان كثيرا ما يفضي تبادل الحملات الإعلامية بين البلدين إلى ما تعافه النفس وتأنف منه الكبرياء، لا سيما بين بلدين عربيين. لم يطق الأمير فيصل بن عبد العزيز صبرا على هذا الوضع المتردي. وعندما دانت له الأمور، وأنشأ أول وزارة للإعلام أراد أن يبدأ هذا العهد الجديد بعهد آخر جديد من الترفع والكبرياء في علاقته مع الرئيس عبد الناصر رغم اشتداد الخلاف بينهما حول قضية اليمن.

ظلت المملكة ملتزمة بالقرار الذي انتهت إليه، لم يثنها عن موقفها إصرار القاهرة على المضي في حملتها، وجنوح تلك الحملة لكل ما فيه خروج عن مقتضيات التعقل واحتمالات العودة يوما إلى العتاب.

كان جهلها بأحوال المملكة، تاريخها، تكوينها الاجتماعي، علاقة الأسرة المالكة بالمواطنين، قد انتهى بأوساط الحكم في القاهرة لأن تعتقد أن إعلامها قادر على زلزلة أركان الحكم في الرياض. وكان هذا الاعتقاد خطأ فادحا، باهظ الثمن في علاقة الرئيس جمال عبد الناصر بالملك فيصل بن عبد العزيز.

ولعل ذلك الصحافي العربي الكبير يتذكر ما كان قد أتى عليه، في مثل هذا الوقت منذ خمسين عاما، في واحدة من مقالاته الأسبوعية، عندما وجه حديثه للملك سعود بن عبد العزيز، رحمه الله، خلال اشتداد أزمة اليمن خاطب فيها العاهلَ السعودي متوعدا إياه بقوله: «سنصل إليك، يا صاحب الجلالة، حتى لو اختبأت تحت ستار الكعبة»!

لقد التصقت هذه العبارة، لفظاظتها وغرورها ولهجة الاستكبار فيها، بذاكرتي التصاق العيون بمحاجرها..

لم يختبئ الملك سعود، ولم يصل إليه ذلك الصحافي الكبير..

* وزير الإعلام ووزير الصحة السعودي الأسبق والأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية