في سبيل صحوة حقيقية: السعودية نموذجا

TT

استكمالا لحديثنا الأسبوع السابق، فإن الحديث عن «الصحوة» نظريا قد يعني الكثير، ولكن إن لم تكن هنالك حالة بعينها تساعد على إلقاء بعض الضوء على ما كنا عليه وما أصبحناه، فلا أظن أن ذلك يعني الكثير، ولا أظن أن هنالك أفضل من الحالة السعودية لمناقشتها، فهي الدولة التي إذا تغير فيها شيء تغير كل شيء من حولها. السعودية هي «جغرافية» جناحي الهوية العربية أي العروبة والإسلام، وكل تاريخ العرب إنما يبدأ وينتهي في جزيرة العرب، أي الدولة السعودية حاليا. لغة العرب الفصحى هي لغة قريش، وديانتهم هي إسلام محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأول وحدة عربية بعد عقود من تجاهلها هي وحدة الدولة السعودية، والأسرة المالكة الوحيدة التي انبثقت من الشعب المحلي هي الأسرة السعودية، فيما معظم الأسر الأخرى هي فرض استعماري، أو ورقة سياسية في اللعبة الدولية، والدعوة إلى صحوة دينية حقيقية كانت على يد محمد بن عبد الوهاب، الذي رغم الاختلاف معه في أمور معينة، فإنه ما كان لجزيرة العرب أن تتوحد سياسيا لولا حركته وميثاقه مع ابن سعود، والحديث يطول في هذا المجال، وله مكان آخر.

المهم، ما يحدث في السعودية من إعادة النظر، أو إعادة التفكير في مفاهيم كانت إلى يوم قريب من المحرمات، أو من «التابوهات» القطعية التي لا يجوز الاقتراب منها، ومناقشتها، خير مؤشر على ما يجري في عالم إسلامي بأسره. فالسعودية هي دولة السلفية في عالم المسلمين، بل هي قلب السلفية الإسلامية قبل أن تتحول هذه السلفية إلى سلفيات، بل وحتى عندما كانت السلفية عامة تعتبر رجعية أيام المد القومي واليساري، وهي الدولة الأكثر محافظة في هذا العالم، حتى إن البعض من خارجها يظن لوهلة أنها ساكنة فكريا، راكدة ذهنيا، جامدة دينيا، والأمر خلاف ذلك تماما. نعم قد لا يكون الحراك الفكري في السعودية ظاهرا للعيان بشكل واضح، ولكنه ينمو ويتطور في أعماق المجتمع على نار هادئة إن صح التعبير، حتى تأتي اللحظة التي ينبثق فيها التغير وكأنه انبثق من المجهول، وهذه إحدى خصوصيات التطور في السعودية، رغم موقفي من كلمة الخصوصية لكثرة ما أسيء استخدامها، ولكن يبقى أن لكل مجتمع خصوصية معينة، وإن كانت لا تعني في النهاية تميزا، بل هي الاختلاف ليس إلا، بمثل ما أن التفرقة بين الذكر والأنثى هي تبيان للاختلاف وليست فوقية أحد على آخر.

مفهوم الاختلاط مثلا كان، وإلى وقت أقل من قريب، من المفاهيم المحرمة التي لا يجوز الحديث عنها في السعودية، فالمسألة محسومة حيث إن الاختلاط، ووفق تنظير ملوي العنق، وتأصيل ضعيف، يدخل في مفهوم الخلوة غير الشرعية المحرمة، ولم يكن أحد يستطيع المجادلة في ذلك، وإلا اتهم بأنه يطعن في صحة ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ويتهم بالتالي في دينه وعرضه وهويته. أما اليوم، فإننا نجد أن مثل هذا المفهوم، على سبيل المثال لا الحصر، خاضع للأخذ والرد، سواء بين رجال الدين أو المثقفين عامة. بل إن هناك من المنتمين إلى المؤسسة الدينية الرسمية السعودية من أجازه، وفرق بينه وبين الخلوة غير الشرعية، وبأدلة من النصوص والتجربة التاريخية الإسلامية الأولى، وهذا أمر ما كان من الممكن تصوره إلى وقت قريب. صحيح أن قضايا مثل الاختلاط ومصافحة المرأة قد تبدو أمورا سطحية لدى البعض في غير السعودية، ولكنها في السعودية مقدمات لتحولات أكبر، كما بركة من الماء يلقى فيها حجر، فتتسع الدوائر.

وبعيدا عن نقاشات المفاهيم وإعادة التفكير فيها، وليس بعيدا عنها حقيقة، عندما ننظر إلى جيل الشباب اليوم، ونقارنه بمثيله قبل عقد من الزمان سنجد أن هنالك تغيرا قد حدث. لم يعد حديث «الجهاد»، كما يصوره شيوخ التطرف والتشدد، أو حديث الموت انتحارا في سبيل الله، ولا أدري كيف يمكن أن يكون الانتحار في سبيل الله جهادا وهو مانح الحياة من أجل عمارة الأرض لا تدميرها، من أجل جنة لا يعلم ساكنها إلا الله. أقول: لم يعد مثل هذا الحديث جاذبا ولا مقنعا لجيل بدأ يتخلص من عبء صحوة أوردته المهالك، وسممت منه العقل والدين، وكان خطابها ومخدراتها الفكرية متراسا بينه وبين حياة سليمة أرادها له الخالق، ومن أن يتحول إلى مجرد أحجار على رقعة شطرنج يتحكم بها من ليس لهم علاقة بدين بل هي الدنيا والسياسة والمصلحة ووجاهة الدنيا. جيل اليوم من الشباب يريد أن يعيش الحياة بكامل أبعادها دون التخلي عن دينه الأسير، ولكن شتان بين الإسلام دينا و«الإسلاموية» سبيلا إلى الدنيا في مخطط شيوخها. بإيجاز العبارة، جيل اليوم متعلق بثقافة الحياة مقارنة بجيل خدعوه بثقافة الموت وأقصر السبل إلى حور عين. حقيقة أن هنالك من الجيل الجديد اليوم من لا يزال أسير صحوة العنف والتدمير وخطابها، ولكن مقارنة بين اليوم وعقد من الزمان مضى، فإن الأمور تبشر بخير كثير، أو لنقل إنها بداية مسيرة الألف ميل.

من أجل هذا الجيل والأجيال المقبلة، فإنه من الضروري العمل على أن تكون هنالك صحوة حقيقة، تبشر بالحياة ولا تدعو إلى الموت أو تنذر بالويل وعظائم الأمور. صحوة تقول بإسلام حضاري يمكن هذه الأجيال من الاندماج مع عالم لا يتآمر عليهم، كما يصور لهم البعض، وهو ليس بحاجة إلى التآمر عليهم، فمؤمرات بعضهم على بعض كافية لبقائهم في صراعات ثانوية حول مصافحة المرأة وشكل الحجاب، فيما المسابر الفضائية ترصد الفضاء، وهندسة الجينات تبشر بعصر جديد للإنسان. نبحث عن صحوة تدعو إلى الاندماج مع العالم دون عقد أو خوف أو ذوبان لهوية تجري فينا مجرى الدم، ولا قيام لهوية تعادي الإنسان، فأنا إنسان أولا، وبعد ذلك تأتي بقية الهويات. صحوة لا تنشر الحقد والبغضاء وتنذر بالعنف والويل والدمار وغزوات مانهاتن ودار السلام والرياض والرباط، بل صحوة تبشر بالحب والسلام والتسامح والتعاون بين بني آدم، ففي النهاية كلنا بشر، وكلنا ننتمي إلى الإنسان وكوكب أزرق واحد لا قيمة مادية له في مجرتنا وكوكبنا، قبل أن ننتمي إلى العشيرة أو القبيلة أو القوم، والله في النهاية هو الحكم وليس الرجال، فما أحوجنا اليوم إلى صحوة حقيقية من أجل الله ورسول الإسلام أولا، وهو الذي بُعث رحمة للعالمين وليس نقمة عليهم، وليتمم مكارم الأخلاق لا أن ينقصها، ومن أجل أجيال ستضيع إن لم نفعل ذلك، وستلعننا إن لم نفعله.

هذه هي الصحوة الحقيقية في اعتقادي، وغير ذلك هو غفوة وكبوة وعثرة، وهو ما عانيناه لثلاثة عقود من الزمان، وقد قيل إن العاقل من اتعظ بغيره، وفي حالتنا فإن العاقل من اتعظ بنفسه.