تأملات حول أمن مصر القومي

TT

لمصر تاريخ عريق. تاريخ يضرب في جذور الحضارات. تطلعت إليها الإمبراطوريات دائما. وطمع بها الفاتحون الكبار. كل من أراد أن يبني لنفسه تاريخا مميزا كان يتطلع إلى مصر. ومهما حقق من إنجازات، كان يدرك أنها لن تبلغ المستوى الذي يريد إلا إذا تمت له السيطرة على مصر.

ومن يرد السيطرة على مصر، فلا بد أن يأتيها من بلاد الشام. تلك التي تبدأ من جبال طوروس في جنوب تركيا وتمتد إلى حدود صحراء سيناء. وبالعكس فإن كل من فكر أن يسيطر على بلاد الشام لا بد أن يأتيها من مصر. لا أمن للفاتح الكبير في السيطرة على مصر إلا بعد السيطرة على بلاد الشام. ولا أمن للفاتح الكبير في السيطرة على بلاد الشام إلا إذا جاءها من مصر. آنذاك تكون معركة السيطرة قد تمت، واكتملت الدائرة كما يقولون.

فعل ذلك الاستراتيجيون الكبار، من الإسكندر، إلى مخططي الحروب الصليبية، إلى صلاح الدين، إلى نابليون وحملاته وفتوحاته، إلى الاحتلال البريطاني الذي توج باتفاقية سايكس بيكو. كلهم ساروا في الطريق نفسه ذهابا أو إيابا.

وحين وقعت الثورة في مصر، كان لا بد لقادة الثورة أن يجتمعوا، وأن يدرسوا مفهوم (أمن مصر القومي)، لأنه على ضوء تلك الدراسة ونتائجها تتحدد سياسات داخلية كثيرة، ولم يكن أولئك المجتمعون جهلة في الموضوع الذي طرحوه على أنفسهم، فكلهم درسوا الموضوع في كليات مصر العسكرية، وبعضهم كان يعلم «الاستراتيجية» للضباط الدارسين الجدد. وكان أول جواب وضع على الطاولة، وعلى سؤال: أين يبدأ أمن مصر القومي؟ هو: إن أمن مصر القومي يبدأ من جبال طوروس جنوب تركيا، وكانوا كلهم يحفظون في ذاكرتهم أحداثا طرية عن الخلاف المصري - التركي في ذلك الحين، وعن التطلع المصري لأن تكون مصر مركز الخلافة وليس تركيا، وعن المؤامرات الغربية للسيطرة على تركيا وإمبراطوريتها، والتي كانوا يصفونها في ذلك الحين بأنها (تركة الرجل المريض). وكانوا كلهم يعرفون بالتفصيل أن تلك الظروف هي التي أوجدت المناخ للقيام بحملة إبراهيم باشا باتجاه بلاد الشام، ثم باتجاه جبال طوروس. كانوا كلهم يعرفون أنها كانت حملة من أجل توفير المناخ الكامل لضمان (أمن مصر القومي). وحين يتحقق أمن مصر القومي بهذا المعنى، تصبح آنذاك طرفا في تقرير مصير الدولة العثمانية، ولا تكون الدول الغربية وحدها هي المقررة في تحديد هذا المصير.

هنا.. وعند تلك اللحظة بالذات، تدخلت كل دول أوروبا، وضغطت وهددت، لكي تتوقف حملة إبراهيم باشا، وتعود إلى مصر، وكان لها ما أرادت.

استذكر قادة ثورة مصر في مطلع الخمسينات هذه الوقائع في ذاكرتهم، وعرفوا أن هذا هو الجواب عن سؤالهم. ولكنهم عرفوا أيضا أنهم لا يستطيعون صياغته بهذا الشكل، لأن الظروف قد تغيرت، ولأن موازين القوى من حولهم قد تبدلت، ولأن دولة إسرائيل قد قامت بجوارهم، وعزلتهم جغرافيا عن بلاد الشام، ولذلك كان التصور «العملي» الجديد، أن أمن مصر يبدأ من حدود قطاع غزة الذي كانت تسيطر عليه مصر آنذاك. وكان هذا القرار يعني بكلمات أخرى أن التهديد لأمن مصر القومي يأتي من دولة إسرائيل.

بعد فترة وجيزة قامت إسرائيل باعتداءات دموية على قطاع غزة، وعلى قرى مجاورة لمدن غزة، ولم يكن الجيش المصري يملك القدرة على صد الهجمات الإسرائيلية. وكانت تلك المواجهة من الدوافع الرئيسية لاتخاذ قرار كسر احتكار السلاح الذي تفرضه أميركا وبريطانيا على مصر، والإقدام على شراء السلاح من الاتحاد السوفياتي، ومن خلال ما عرف في الإعلام بصفقة السلاح التشيكية، وبدأت بذلك عملية إعادة بناء الجيش المصري لمواجهة عدوان إسرائيل.

وحين تكررت الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة، كلفت مصر أحد ضباطها (مصطفى حافظ) بأن ينظم انطلاقا من غزة، عملا فدائيا (حرب عصابات) ضد إسرائيل، وتأسست في غزة حركة فدائية قوية أزعجت إسرائيل لسنوات، وكان المقاتلون الفلسطينيون يخرجون، بأوامر مصرية، وبقيادة مصرية، من قطاع غزة إلى مدينة الخليل إلى عمان في الأردن، ثم يعودون إلى غزة عبر مصر، دفاعا عن أمن مصر القومي.

والآن.. وبالرغم من معاهدة السلام القائمة بين مصر وإسرائيل، فإن الجيش المصري، الأمين على تقاليده، ينظم كل عام مناورة عسكرية كبرى، يتحدد هدفها بأنها من أجل مواجهة الخطر القادم من «الشمال». أي من إسرائيل. وتحتج إسرائيل سنويا على هذه المناورة «غير الودية».

هذا هو المعنى العام والاستراتيجي للأمن القومي المصري، كما تعلمناه من المصريين أنفسهم. إلا أن ظواهر جديدة بدأت تبرز في مصر في الأشهر الأخيرة، تطرح مفاهيم للأمن القومي تختلف عن كل ما عرفناه وعن كل ما تعلمناه.

مفهوم أول يقول إن خلية ما من 11 شخصا، بعضهم مصري وبعضهم عربي، تم اعتقالهم وهم يخططون لعمليات إرهابية داخل مصر، وأنهم سيقدمون للمحاكمة، لأن عملهم هذا «يمس بالأمن القومي المصري». لا نريد هنا أن نناقش حق مصر في اعتقال وسجن ومحاكمة كل من يعمل فوق أراضيها دون إذنها. ولا نريد أن ندافع عن هذه الخلية أو تلك، حتى لو كانت دوافعها من النوع الذي يدافع عنه. إنما نريد أن نسأل: هل تغير مفهوم الأمن القومي المصري، من مفهوم يتعلق بخطر داهم يهدد البلد كله من الخارج، إلى مفهوم صغير يتعلق بعمل عنفي تمارسه خلية من أحد عشر شخصا؟

وثمة مفهوم آخر للأمن القومي المصري، يطرح الآن ويشتد حوله النقاش، يتعلق بالجدار الفولاذي الذي تبنيه مصر الآن، فوق أرضها، وداخل حدودها، وقريبا من أرض قطاع غزة. ويقال إن بناءه قرار سيادي للدفاع عن أمن مصر القومي. وهنا أيضا لا نريد أن نناقش حق مصر في أن تبني فوق أرضها ما تشاء، ولا نريد أن نناقش ما إذا كان هذا الجدار يضر أهل غزة أم لا. ولكن نريد أن نسأل: هل تغير مفهوم الأمن القومي المصري بحيث أصبح الدفاع عنه يتم من داخل الأراضي المصرية، لا من خارجها، ولا من تخوم حدودها؟

ونريد أن هذه الأسئلة تقلق الجميع، وتحتاج إلى إجابات تقنع الجميع، حتى لا يتطور النقاش والجدل إلى مساس بمصر، الكل في غنى عنه، والكل يتمنون أن تبقى مصر في القلب، وبخاصة في القضايا العربية المصيرية. ونحن حين نطالب مصر بإجابات، إنما لنقول بكل مودة ومحبة، إن الأجوبة التي يتم الإعلان عنها ليست مقنعة لأحد. ومن الممكن مثلا القول عبر أجهزة إعلام كفؤة وقادرة (إن أرادت)، إن مصر قررت إغلاق الأنفاق مع قطاع غزة بشكل نهائي، وإنها تتعهد بالمقابل بأن توصل إلى قطاع غزة كل ما يحتاجه من مؤن وغذاء ودواء. ولو أن مصر تقدم على موقف من هذا النوع، لكانت استطاعت أن تبني جدارها، وأن تعزز في الوقت نفسه مكانتها في نفوس الجائعين والمحاصرين في قطاع غزة.

نحن من المؤمنين مع الاستراتيجيين المصريين، بأن أمن مصر يبدأ من قطاع غزة، غزة الحليفة لمصر دائما. وما دامت غزة حليفة لمصر، فإن الحوار معها يصبح سهلا للغاية.. إن خلصت النوايا.