هل الفشل أميركي أم عراقي؟

TT

السؤال الذي يطرحه كثيرون هو: لماذا نجحت الولايات المتحدة عبر مشروع مارشال والمظلة الأمنية بالإسهام في إنتاج ديمقراطية راسخة وعملية ناجحة لبناء الأمة في كل من ألمانيا واليابان، ولماذا لا يبدو أن لهذا المشروع أفق نجاح كبيرا في كل من العراق وأفغانستان. والجواب الأهم بين أكثر من جواب هو أنك لا تستطيع أن تصنع نظاما ديمقراطيا حديثا في مجتمعات لم تستكمل مشروع الحداثة، بل إن هذا المشروع أصيب بانتكاسة كبيرة فيها. ففضلا عن حقيقة أن أميركا التي احتلت العراق وأفغانستان ليست نفس أميركا التي احتلت ألمانيا واليابان والتي كانت لا تزال آنذاك في مراحل زهوها كنموذج للحلم والتقدم والتعايش والازدهار، وتسيطر عليها آيديولوجيات عقلانية ذات نزعة تحريرية لا أفكار المحافظين الجدد وأساطير اليمين المسيحي، فإن مجتمعاتنا بدورها تنتمي إلى عصر آخر غير ذاك الذي كانت تنتمي إليه ألمانيا وحتى اليابان -رغم ما عُرف عنها من محافظة- كما أن البيئة الإقليمية لم تكن مواتية أو مشجعة لأي ميل أميركي نحو إنضاج مشروع حداثي لبناء الأمة والديمقراطية في المنطقة، ولنرجع بذاكرتنا سبعة أعوام لنستذكر كيف تعاملت معظم وسائل الإعلام الإقليمية مع التغيير في العراق وحجم الحرب التي شُنّت والتشكيك بل والتضليل الذي حاول أن يخفي أمنيات البعض بفشل التجربة حتى لو كان العراقيون والأفغان هم من سيدفع الثمن لا لشيء إلا لكراهية مرضيّة لكل ما هو غربي.

ليس خافيا أن غالبية العراقيين كانوا رغم كل شيء ورغم كل الشعارات عن الاحتلال والمقاومة راغبين في التغيير وفي رؤية أفق جديد، بل ومستعدين للتجريب بعد زمن طويل من الانغلاق وانسداد الآفاق السياسية والاجتماعية والحروب المدمرة، لكن أربعة عوامل رئيسية تضافرت لتخريب الفرصة: الأول هو أن الأميركيين لم يكونوا واثقين حول ما يريدونه في العراق وتنازع عندهم اتجاهان أحدهما أراد عملية صعبة لإعادة بناء الأمة ذات نفس طويل وتكلفة عالية لكنها قادرة على إنتاج تغيير جذري كذلك الذي أنتجته السياسة الأميركية في أوربا بعد الحرب العالمية الثانية، والآخر ظل ينظر إلى العراق كنسيج غامض من الثقافة الإسلامية والتقاليد المحافظة والنفط، لم يرَ هذا الاتجاه أي أمل في التعامل بنفس طويل مع تعقيدات العراق وفضل منهجا براغماتيا بحتا وصل لدى البعض -لا سيما في وزارة الدفاع- إلى الدفع باتجاه تكريس العداءات الإثنية والطائفية داخل المجتمع العراقي باستخدام المنطق الاستعماري التقليدي «فرّق تسُدْ». العامل الثاني هو البنية الثقافية والذهنية للمواطن العراقي المبنية على خليط من عدم الثقة في أي سلطة وفي أي مشروع للدولة وبالشك تجاه كل ما يصدر عن الغرب وبنوع من المحافظة الدينية التي سرعان ما استقطبتها فكرة الغزو الصليبي ثم من بعد ذلك الانقسامات الطائفية، والعامل الثالث هو الضخ السياسي والديني والإعلامي الهائل المنبعث من الجوار والهادف إلى تنمية عناصر الشك وعدم الثقة والسلبية تجاه أي مشروع جديد ومعه تم إطلاق فكرة المقاومة المسلحة التي دفعت بعض مناطق العراق ثمنا باهظا لمغامراتها وكان من نتاج ذلك أيضا مقاطعة السنة للعملية السياسية في بداياتها وهو ما أربك تلك العملية وجعلها تعاني وقتا طويلا من عدم الاكتمال، أما العامل الرابع، فهو حلول طبقة سياسية غير خبيرة ولا تمتلك مشروعا لبناء الأمة والدولة أو أفقا خارج إطار المساومات المحدودة والضيقة الأفق التي حكمتها الانقسامات والشكوك الإثنية والطائفية.

كل هذه العوامل اجتمعت تسندها أرضية أكثر عمقا في نفورها من المشروع الديمقراطي أو عدم قدرتها على استيعابه، إنها أرضية المجتمع الذي انتكس فيه مشروع الحداثة وكان عليه أمام هذا الانتكاس أن يعود إلى أدواته القديمة (القبيلة والطائفة والعشيرة)، بعد أن كفت الدولة لا سيما بعد هزيمة الكويت عام 1991 عن أن تقوم بدورها كملبية للخدمات وحاملة لمشروع التغيير، لقد تحولت الدولة في نظر كثير من العراقيين إلى جهاز للمخابرات والأمن وفرقة حزبية يطرق أفرادها أبوابهم لجمع التبرعات أو للتعبئة في مظاهرات التأييد لـ«حكمة القيادة» أو للتجنيد أو لاسترداد ثمن الرصاصة التي أُعدمَ بها أبناؤهم. في التسعينات أيضا تبنت الدولة وعلى نطاق واسع إعادة إحياء القبلية والعشائرية ومؤسساتهما مع كل ما عناه ذلك من الإجهاز على ما تبقى من مشروع الحداثة الذي كان البعثيون في بداية السبعينات قد تبنوه، بل وقطعوا شوطا لا باس به باتجاهه عبر مشروعات مثل محو الأمية والتعليم الإلزامي رغم كل ما غلفها من طابع دعائي وتجيير آيديولوجي، قبل أن يتم الإجهاز على البعث كحزب وتحويله إلى ملكية لتحالف عشائري وقروي يقوده شلة من الجهلة وأنصاف المتعلمين. أشير إلى هذه الحقيقة من أجل أن أحفز الذهن على تجاوز مفاهيمنا التقليدية التي استخدمناها في معالجة ماضينا القريب وحاضرنا ومن بينها الخلل في فهم ظاهرة حزب البعث الذي في اعتقادي أنه مات كتنظيم سياسي وآيديولوجي في منتصف السبعينات وأن ما عرفناه بالبعث بعد ذلك لم يكن سوى جهاز أمني وعسكري تابع لصدام حسين. إن فهم الماضي والبعد الاجتماعي تحديدا هو المدخل لفهم ما يحصل راهنا وطبيعة الأزمة العراقية التي هي أزمة بنيوية مقترنة بفشل الدولة المزمن في أن تكون متصالحة مع المجتمع وقادرة على أن تقود مشروع تغيير حقيقي وتحديثي فيه.