عام 2009: بعض العرب.. بعض اليهود

TT

أغلق عام 2009 أبوابه على عناوين غير اعتيادية لم يألفها، ما درجنا على تسميته الصراع العربي – الإسرائيلي؛ عناوين تستحق وقفة، لأنها قد تستوجب تغيير اسم هذا الصراع، نظرا إلى اختلاف طبيعته والأطراف المنخرطة فيه، ومواقف بعض فئات هذه الأطراف. فقد نشرت جريدة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية في عددها الصادر في 28/12/2009 مقالا بعنوان: «ناجية من الهولوكوست تبدأ إضرابا عن الطعام من أجل غزة». وأوضح المقال أن هيدي إيبستاين، الناشطة اليهودية الأميركية، البالغة من العمر خمسة وثمانين عاما، وجدات أخريات بدأن إضرابا عن الطعام في القاهرة يوم الاثنين 28/12 احتجاجا على رفض العرب السماح لموكبهن المتضامن مع غزة بالتقدم في اتجاه غزة، إحياء للذكرى الأولى لضحايا الحرب الإسرائيلية على غزة من المدنيين العرب، التي سميت «الرصاص المصبوب». وفي عنوان آخر: «1342 متضامنا مع أهل غزة (العرب) من 42 بلدا في العالم تركوا أسرهم وأطفالهم وأهليهم، وقدموا من كل أرجاء المعمورة لقضاء أعياد الميلاد مع أهل وأطفال غزة، ولكنهم أمضوا أعياد الميلاد في شوارع القاهرة يتظاهرون أمام السفارة الفرنسية احتجاجا على رفض (العرب) السماح لهم بدخول غزة». وفي عنوان ثالث: «قافلة (شريان الحياة) تعود أدراجها إلى سورية بعد أن رفضت السلطات المصرية السماح لها بدخول غزة وهي محملة بالغذاء والدواء عن طريق ميناء نويبع». وفي عنوان رابع: «حاخامات يهود يصلون إلى العريش انتظارا لقافلة غالاوي»، ويعلو هذا العنوان عنوان آخر يقول: «السلطات المصرية تفجر 3 أنفاق على الحدود مع غزة»، («الشرق الأوسط» 30/12/2009). وفي عنوان سادس: «مسيرة تضامنية في السويد: رفع الحصار ومحاكمة مجرمي الحرب الصهاينة». وفي عنوان سابع: «300 فرنسي ينامون أمام السفارة الفرنسية في القاهرة احتجاجا على رفض السلطات المصرية السماح لهم بدخول غزة». وفي عنوان ثامن: «غولدستون.. قاض يهودي أنصف الفلسطينيين، وإسرائيل رفضت التعاون معه» («الشرق الأوسط» 29/12/2009). وفي عنوان آخر: «(الشين بيت) يستبعد انتفاضة ثالثة ويحذر من تغيير القيادة الفلسطينية». وفي عنوان أخير من جريدة «الأخبار» اللبنانية 29/12/2009: «ناشطون دوليون ينظمون في القاهرة وعمان سلسلة من الاعتصامات والإضرابات احتجاجا على العرقلة المصرية».

لا يمكن القول إن هذه عناوين مألوفة في سجل الصراع العربي - الإسرائيلي، الذي تم تصويره خلال العقود الماضية على أنه صراع بين اليهود والعرب.

ما يميز هذه العناوين نهاية الاصطفاف التقليدي في الصراع، وبداية تشكل وعي دولي بحقيقة الصراع، وأن شعبا أعزل يقع تحت براثن احتلال عسكري عرقي، يعيث في أرضه وحياته وأطفاله، هدما وقتلا وتشريدا وتعذيبا وحصارا. والمسألة المحزنة عام 2009، ليس فقط غياب الدور الرسمي العربي في دعم القضية الفلسطينية بالصمت المطبق، أو الانشغال بحروب عربية - عربية يسيل فيها الدم العربي المسلم حصرا، بل قيام بعض العرب بعرقلة جهود دولية تهدف إلى إيصال المساعدات الغذائية والدوائية إلى المدنيين في غزة، وسكوت العرب عموما عن الحصار العربي على غزة، الذي يتسبب فيه احتلال عنصري استيطاني يفتك بحياة فلسطينيين عزل لا حول ولا قوة لهم. ولمن يريد الاحتماء بدعاية إطلاق الصواريخ من غزة، فليعلم أن إسرائيل، وبعد وقف إطلاق النار، وبعد الاتفاق على هدنة مع حماس، وبعد توقف إطلاق الصواريخ نهائيا من غزة، قتلت 1061 فلسطيني في غزة خلال عام 2009، واعتقلت المئات، ولا تزال تواصل شن الغارات الجوية والبحرية والبرية ضد المدنيين في غزة، دون أن يحتج أي سياسي أو إعلامي عربي ممن يدعون إلى «الحكمة» و«التعقل» لدى حديثهم عن صواريخ حماس.

لقد قتلت إسرائيل قبل وخلال وبعد حربها الهمجية على غزة آلاف الفلسطينيين المدنيين العزل، وآخرهم ستة في أعياد الميلاد 2009، بينما يعيش أكثر من 11 ألف أسير فلسطيني، بمن فيهم الأطفال والنساء والبرلمانيون، معاناة لا إنسانية في غياهب سجون الاحتلال، ويتعرضون للاغتصاب والتعذيب والمهانة اليومية، دون أن يحتج أي سياسي عربي، فيما يحتج على ذلك أحرار العالم من يهود ومسيحيين ومسلمين.

لا شك أن جرائم الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، وجرائم الحرب المماثلة على غزة عام 2008 - 2009، هي التي حركت ضمير الشرفاء في الغرب، ولكن شرارة هذا التحرك في حاجة إلى تغذية كي تصل إلى عقول وقلوب البشر جميعا، وذلك كي يشهد عام 2010 بداية حقيقية للضغط على حكومات العالم لتغيير موقفها المتجاهل دماء الفلسطينيين والمستسهل معاناتهم التي لا تطاق، والمتجاهل حقوقهم الإنسانية المكفولة في جميع الشرائع السماوية، والقوانين الدولية. المواقف العربية لم تحرك ساكنا في ذكرى الحرب على غزة، وكذلك الجماهير الصامتة، التي لا تتحرك إلا في أرجاء الملاعب، فيما تخلو منهم الشوارع العربية استنكارا لما يتعرض له إخوانهم في فلسطين، ولما تتعرض له القدس من تهويد. الوضع الرسمي العربي صعب ومعقد اليوم، ولكن قضية فلسطين، كما كانت قضية جنوب أفريقيا سابقا، هي قضية مطروحة على ضمير العالم، وهي قضية عدالة، وقضية حرية، تعني كل إنسان في هذا الكون.

إن أهمية ما أغلق عام 2009 جفونه عليه من تضامن مع الفلسطينيين من قبل أحرار العالم، هو إلغاء صفة الطائفية عن هذا الصراع، وإظهار صفته الحقيقية بأنه صراع الإنسانية ضد احتلال عسكري إسرائيلي لأرض وشعب فلسطين، وانضمام غير العرب بهذا الزخم إلى الدفاع عن أهل غزة، يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، وهي أن أتباع الديانات السماوية الثلاث جميعهم يرفضون القتل والاحتلال والتهجير، وأن أتباع هذه الديانات الثلاث عاشوا على أرض الديانات الإلهية لآلاف السنين، إلى أن أقام الصهاينة كيانهم العنصري، مستغلين تعاطف العالم مع اليهود بعد الحرب العالمية الثانية، ومحاولين تأجيج هذا التعاطف بحملة شنيعة ضد المسلمين، بدأت مباشرة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، محاولين المزاوجة بين الإرهاب والإسلام، وذلك لتأليب الرأي العام العالمي، وجعله يسكت عن جرائم الحرب الإسرائيلية. وفي غمرة هذا وذاك، لا يزال الإعلام التابع للدوائر الصهيونية يحاول التعتيم على الجهود الهائلة التي يبذلها شرفاء العالم من يهود ومسيحيين، وذلك كي لا يتوصل العالم إلى فهم حقيقة هذا الصراع. فقد اجتمع في واشنطن في 25 أكتوبر (تشرين الأول) آلاف اليهود منضوين تحت لواء منظمة جديدة اسمها J.street»»، تفصل بين اليهود وبين ما تقوم به إسرائيل ككيان يرتكب الجرائم البشعة بحق شعب أعزل يطمح إلى العيش بحرية على أرضه. ولم يسمح للإعلام أن يواكب مجريات ذلك الاجتماع، ولكن ما تسرب منه يقول إن أعتى عتاة المعروفين بدعمهم لإسرائيل قالوا في هذا الاجتماع: «إن المستوطنين يعيشون على أرض ليست لهم، وإنه لا يمكن لإسرائيل أن تستمر في هدم المنازل وشن الحروب، ولا بد لها أن تتوصل إلى سلام عادل ودائم». مثل هذه الأصوات بقيت حبيسة الغرف التي تحدثوا فيها. الأفكار الأساسية التي يجب أن نحملها من عام 2009، هي أن العجز الرسمي العربي بلغ ذروته في معالجة قضايا العرب، وسبب ذلك هو صمت الجماهير عن هذا العجز، ربما إحباطا، وربما إيمانا بعجز حكوماتهم.

يجب أن تصل قضية حرية شعب فلسطين إلى برلمانات وحكومات وإعلام وضمائر العالم برمته عام 2010. وإن بدء حملة لمقاطعة إسرائيل ودعم التحركات الدولية الموجودة بهذا الصدد، هو أفضل ما يمكن أن يقوم به أحرار العرب والعالم. وليكن عام 2010 عام الدعم الدولي للقضية الفلسطينية، من أجل إنهاء آخر إبادة عنصرية بشعة يشهدها العالم في القرن الحادي والعشرين، ومن أجل حرية فلسطين وشعبها الأعزل.