2010.. عام إيران وإسرائيل!

TT

«الخطأ الحقيقي الوحيد هو ذلك الذي لا تتعلم منه شيئا»

(جون باول)

مع دخول العالم العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين يتأكد كم كان الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش «الأب» على خطأ عندما أطلق، وكرر، عبارة: «لا صلة» (No Linkage)، تعليقا على إقدام صدام حسين على غزو الكويت.

يومذاك، تقبل كثيرون تلك العبارة من دون الشعور بحاجة إلى تفكير ملي بمضمونها. فالمسألة بديهية؛ إذ إن مَن أبدى ليونة تفريطية مع إيران في نزاع شط العرب الحدودي، لا يمكن أن يغزو دولة شقيقة، كالكويت.. في طريقه لتحرير فلسطين.

غير أن الذي «ابتلع» الـNo Linkage بلا جدال أو تشكيك، فاته وجود صلة حقيقية بين نكبة فلسطين ونشوء أنظمة عربية شخصانية أو فئوية، قاصرة ومتخلفة، أوقفت التقدم نحو الديمقراطية، وشوهت أصالة العروبة، وأوجدت داخل كياناتها طبقة انتهازية فاسدة، وتبنت خطابا غوغائيا إلهائيا.. همه صرف أنظار الناس عن محاسبة سلطة انحصر هم أهلها في تحويلها إلى مزارع أمنية.

نعم كانت، ولا تزال، هناك «صلة»، بل صلة قوية جدا، بين استمرار نكبة فلسطين وتداعياتها.. وبين نشوء حالات من الإحباط الفظيع الذي حول التدين في «أمة وسط» إلى تطرف انتحاري يجر عامة المسلمين، من دون استشارتهم طبعا، إلى مواجهة مفتوحة، غير متكافئة، مع باقي شعوب الأرض!

والمشكلة الأخطر هنا لا تتعلق بشباب عربي ومسلم محبط.. بقدر ما تتعلق بحكومات دول متقدمة ديمقراطية يفترض أنها منفتحة على الحوار، تحترم حقوق الإنسان، لكنها رفضت حتى الآن التعلم من أخطائها. فحسابات إجهاض الحركة الاستقلالية في الهند دفعت بريطانيا لرعاية تقسيم الهند، وتأسيس باكستان لتكون «دولة للمسلمين»، قبل سنة واحدة من رعايتها أيضا تأسيس إسرائيل فوق أرض فلسطين لتكون «دولة لليهود»؛ وكانت الحصيلة دولتين تدعيان التدين، وتعيشان تحت حراب الجنرالات.

وما كانت فرنسا أقل تدخلا واستغلالا لعاملي الدين واللغة في المناطق التي تسيدت عليها، بل إنها في حالة الجزائر، وصل البعض، كالجنرال راوول سالان ورفاق تمرده عام 1961، إلى حد اعتبار الجزائر جزءا لا يتجزأ من الوطن الفرنسي.

ولا شك أن طبيعة النظام العالمي الذي ولد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أسهمت في ميل القوى الغربية الرأسمالية إلى استغلال الهوية الدينية والهوية القبلية، أو العرقية - اللغوية، لمصلحتها في وجه المعسكر الاشتراكي، مستثمرا الصراع الطبقي الذي لا يُحسم إلا بالثورة الشعبية الحمراء.

واستمر رهان الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، على الدين والعرق حتى ظهور ترهل القيادة السوفياتية خلال عقد السبعينات من القرن العشرين، بالتزامن مع وصول العالم الإسلامي إلى وضعية جديدة تمثلت ببدء انحسار الفكر القومي العربي في أعقاب نكسة 1967؛ ومن ثم انتهاء الحقبة الناصرية في مصر عام 1970، ثم قيام الثورة الخمينية في إيران، وتنامي قوة التيار الإسلامي في تركيا على حساب الآتاتوركية العلمانية.

وجاء توريط الاتحاد السوفياتي في مستنقع أفغانستان ليكتب بداية نهايته، كدولة وكقوة عظمى أسهمت منذ مطلع عقد الخمسينات في توفير المناخ العالمي الذي أتاح استقلال دول آسيا وأفريقيا، وخلق نوعا من توازن الرعب والمصالح في العالم. وبطبيعة الحال، ألغى انهيار «عدو الأمس» معادلات عديدة.. وخلق بدائل جديدة، غير أن الغرب الرأسمالي المنتصر رفض أن يتنبه إلى كنهها.

وكذلك رفض الإقرار بأن استمرار تأييده المطلق لعدوانية إسرائيل التوسعية، في ظل انعدام آيديولوجية متجانسة ذات صدقية أو وزن في العالم العربي بعد سقوط الخيار القومي، سيدفع ملايين من سكان هذا العالم المحبطين، الذين يشكل المسلمون أكثر من 90% منهم، إلى التعاطف مع جماعات أصولية تؤمن بمقارعة التعصب بالتعصب، والدين بالدين، والسلاح بالسلاح.

ورفض تقدير أن مواصلة الاستخفاف بتركيا، الشريك الأطلسي الصدوق في تضييق الخناق على الاتحاد السوفياتي طوال حقبة «الحرب الباردة»، ورفضه قبولها ضمن الأسرة الأوروبية.. لا بد أن يقنع مزيدا من الأتراك بأن مصلحتهم الحقيقية هي أن يعودوا سادة لـ«الشرق» - حيث تبدأ حدود «الطورانية» من حدود الصين، ولا تنتهي عند شبه جزيرة القرم (الروسية الأوكرانية) - بدلا من أن يظلوا تابعين لـ«الغرب».

ورفض إدراك أن تواطؤه مع العسكريتاريا الباكستانية في انقلاباتها المتعددة على المجتمع المدني والحياة الديمقراطية، سيدفعها إلى ترويج صور مشوهة لإسلام آخر لا علاقة له بالدين السمح؛ لمحاربة معارضيها الليبراليين والتقدميين. ومن ثم؛ سيخرج من حاضنات باكستان التلقينية جيش من المتطرفين، ها هم وتلامذتهم، الآن، ملء السمع والبصر في أفغانستان، واليمن، والصومال، وإندونيسيا.. وغيرها.

ورفض التحسب لاحتمال أن يتحول «المستنقع» الأفغاني المزمن - منذ تجارب البريطانيين معه في القرن التاسع عشر حتى 1919، ثم مع «الجيش الأحمر» قبل سقوط الاتحاد السوفياتي - إلى مأزق و«حقول قتل» للأميركيين والأوروبيين اليوم.

وطبعا، لا بد أن نتذكر أن تآمر القوى الغربية على تجربة محمد مصدق، وتبنيها المطلق لفترة، غيّر سياسات العهد البهلوي على حساب مصالح القوى الديمقراطية والتقدمية في إيران، وحصر قوة التحرك الفعلية ضد نظام الشاه بالملالي، وبديلهم الديني.. والنتيجة واضحة لا تحتاج إلى برهان.

ويبدو أن عام 2010 سيكون، على الأرجح، عام استحقاقات شرق أوسطية وعالمية غاية في الخطورة، ولا سيما بعدما نجح جورج بوش «الابن» في تحويل «القاعدة» إلى «قواعد» منتشرة على امتداد المعمورة، وفي هدم أسوار العالم العربي أمام نفوذ إيران و«وصفات» قيادتها الدينية لتسوية مشاكل المنطقة، وفي مقدمتها النزاع العربي - الإسرائيلي.

وهو أيضا عام نهاية «فترة السماح» الفعلية التي منحها الأميركيون لرئيسهم، باراك أوباما؛ ذلك أن أمامهم في الخريف المقبل فرص تقييم أدائه عن السنتين الأولى والثانية من فترة رئاسته. وبمقدور الناخب الأميركي سحب ثقته من أوباما إذا ما أعاد الأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب إلى خصومه الجمهوريين؛ مما يعني تقييد حركته، وتصفية «ثورته» المترددة.

إسرائيل، حققت حتى الآن فوزا بالنقاط على أوباما عندما شلت مبادرته الشرق أوسطية، وقد تقرر الدفع نحو انتصار بالضربة القاضية في الكونغرس. وإيران، التي أتقنت ممارسة «الهجوم كأفضل وسائل الدفاع»، تخوض صراعا داخليا على وقع مواصلتها تطوير سلاحها النووي الرادع. وهذان الضلعان يشكلان، مع تركيا، ثلثي «مثلث النفوذ» في الشرق الأوسط اليوم.. وسط الغياب العربي المدوي.

وبناء عليه، توقعوا أن نكون أمام عام حسم خيارات «الوكالة الإقليمية» على المنطقة.