اعطني الإنسان وخذ كل الأبطال

TT

قرأت بشوق أقصوصة الزميل مشعل السديري «هل هذه خيانة عظمى؟»، واستمتعت بمادتها وصياغتها. إنها تروي حكاية إنسانية من حكايات الحرب العالمية الثانية. وتذكرنا بأن للحروب إنسانياتها مثلما لها بطولاتها. وأنا ممن يضع الأولى قبل الثانية. ولكن لي حكاية مشابهة أقرب لنا زمنا ومكانا. سبق لي أن أعطيتها صيغة قصة قصيرة ضمن مجموعتي القصصية «من شارع الرشيد إلى أكسفورد ستريت». ولما كنت لا أتوقع أن الكثير من قراء هذه الزاوية قد قرأوا كتابي هذا، أو في الواقع أي كتاب من كتبي، فمن الجدير بي أن أعيد ذكرها، لا سيما وأنها، كقصة الزميل السديري، كانت واقعة حقيقية سمعتها من أحد المقاتلين العراقيين.

حدث لجندي عراقي أن وجد نفسه خلال الحرب مع إيران، وسط معركة ضارية اختلط فيها الحابل بالنابل. توالت القنابل والصواريخ من كل صوب، ولم تنثر أشلاء المقاتلين فقط بل وكذلك سحبا كثيفة من التراب والغبار. لم يجد ذلك الجندي مخلصا من رعبه غير أن يلقي بنفسه في أحد الخنادق ويلملم نفسه. هدأ الضرب لبضع ثوان وخفت بذلك سحب الغبار. نظر أمامه فلمح بين طياتها جنديا آخر في الطرف المقابل، هو كذلك نجا بروحه هلعا. ظل يحدق فيه والغبار يتلاشى ويخف حتى أدرك أن ذلك الجندي الآخر كان من العساكر الإيرانيين. كان عدوه في المعركة. تناول العراقي بندقيته الأوتوماتية ليعجل بقتله. صوب بندقيته نحوه. ولكنه قبل أن يضغط على الزناد، سمع الإيراني يسأله صائحا « مسلم؟.. مسلم؟»

«نعم مسلم. الحمد لله».

عاد الجندي الإيراني ليصيح به بلغة عربية مكسرة: « نزّل راسك، نزّل راسك!!.. تريد تموت؟».

قال الإيراني وأشار بيده بعصبية إلى الجندي العراقي أن يخفي رأسه في الخندق لئلا تصيبه شظايا القنابل. استجاب له العراقي، وألقى ببندقيته إلى يمينه ولم يطلق الرصاص. وعادت المدافع تزأر بقنابلها وتلقي حممها على الطرفين. وتصاعدت سحب الغبار ثانية ولفت الأرض والبشر والدبابات والمدرعات بلحافها. لم يعد العراقي يرى حتى حذاءه وسلاحه. ولكن السكون عاد ثانية في الساحة لا يقطعه غير صراخ وأنين الجرحى والمصابين ونداءات الجنود على الإسعاف: «نقالة!.. نقالة»..

هبطت سحب الغبار وبانت معالم الأشياء. رفع الجندي العراقي رأسه ونظر أمامه نحو موقع الجندي الإيراني. ولكنه لم يكن هناك. لم يعد له أي أثر. وتلاشى الغبار وقويت الرؤية.

وهناك حيث كان ذلك الشاب الإيراني مختبأ، لمح الجندي العراقي بركة من الدم.

اللهم اغمره برحمتك الواسعة.