العقد الذي ضلت فيه الولايات المتحدة طريقها

TT

هناك بعض العقود التي تعيد تشكيل الحياة السياسية في البلاد لعدة أجيال متتالية، وهي تلك العقود التي تخلف ورائها حقبة يحتفي بها الناس أو على الأقل - كما هو معتاد - يزدرونها.

ومما لا شك فيه أن عقد الستينات كان من ذلك النوع، كذلك الثلاثينات والثمانينات. وعلى الرغم من أهمية تلك العقود، تتضاءل تلك الأهمية أمام ذلك العقد الطائش والمبدد الذي أوشك - حمدا لله - على الانتهاء.

أخشى أن ينظر إلى السنوات العشر الماضية باعتبارها الفترة التي ضلت خلالها الولايات المتحدة طريقها نظرا إلى استخدامها قوتها العسكرية بلا مبالاة، وإساءة فهم التحديات الحقيقية التي يواجهها أمننا على المدى البعيد، واتباع سياسات محلية تعرقل خياراتنا المستقبلية وتهدد في الوقت نفسه بلا داعٍ رخائنا الاقتصادي.

أعلم أن الفقرة السابقة مثيرة للجدل بشكل عام، وهو ما ينطبق على أي عقد له تلك الأهمية السياسية، فقد كان الكثير من الجدل الذي أحاط برئاسة باراك أوباما في حقيقته امتدادا للجدال الدائر حول الآثار التي خلفتها فترة حكم الرئيس السابق جورج دبليو بوش.

وذلك هو السر في عدم قدرة أوباما على الإيذان بفترة جديدة من الإجماع العام رغم آماله العريضة. ويعرف المدافعون عن بوش أن انتخاب أوباما جاء ليمثل رد فعل شعبيا على تداعيات فترة رئاسة بوش. ولأن أوباما من معارضي بوش، ولأنه قائد فريق تنظيف البيت في فترة ما بعد بوش، فإن نجاحه سيكون إيذانا باستئناف الجدل. لذا فإن معسكر بوش - الذي تنعكس آراؤه في مقالات كارل روف التي تُنشر بانتظام في صفحات الرأي بصحيفة «وول ستريت جورنال» - يجب أن يظل على خط الهجوم.

فعلى المستوى المحلي، ورث أوباما كارثة اقتصادية، تطلب التعامل معها إنفاق قدر كبير من الأموال العامة، وهو ما زاد العجز الذي كان قد تفاقم بالفعل في أعقاب القرار الذي اتخذه الرئيس بوش بشن حربين وخفض الضرائب في الوقت نفسه. ويعمل المدافعون عن بوش، الذين يفضلون تحويل الانتباه عن تلك الفترة التي اتسمت بانعدام المسؤولية، كأن العالم بدأ في 20 يناير (كانون الثاني) من عام 2009، حيث إنهم يلقون باللوم على عاتق أوباما بشأن كل ما يزعجنا في الوقت الحالي، بيد أنه لا يمكننا تجاهل الأعوام الثمانية الماضية، فرئيسنا الحالي يتسم بأنه أكثر تأنيا بشأن استخدام قوة الولايات المتحدة عن الرئيس السابق، كما أنه عازم على تحسين صورة أميركا أمام الدول الأخرى. وعلى الرغم من أن أوباما ملتزم بمحاربة الإرهاب، فإنه يؤمن أن «الحرب على الإرهاب» لا ينبغي أن تحدد سياستنا الخارجية.

ويقودنا ذلك مباشرة إلى جدل جوهري آخر حول مدلول العقد الماضي: فهل كان الرد المناسب على هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) يقتضي ليس فقط تلك الحرب الانتقامية في أفغانستان، والتي لاقت دعما واسعا، بل وغزو العراق كذلك؟ تعد وجهة نظر أوباما - التي تقول إن حرب العراق أهدرت القوة الأميركية وبددت حسن النية تجاهنا في جميع أنحاء العالم - نقدا مباشرا للافتراضات الأساسية في السياسة الخارجية لبوش. كذلك رفضه «وضع أهداف تتجاوز مسؤوليتنا أو وسائلنا أو مصالحنا»، وفقا لما قاله في الخطاب الذي ألقاه بأكاديمية «ويست بوينت» العسكرية، وهي من كبرى الأكاديميات العسكرية في العالم، وكذا إصراره على تقدير «الصلة بين أمننا القومي واقتصادنا».

إن منطق أوباما المحسوب بشأن استخدام القوة يتناقض مع وضع سياسة خارجية تحكمها شعارات مثل «أحضروهم للعدالة»، والتعهد «بهزيمة الأعداء في جميع أنحاء العالم».

وكان ذلك الصدام في المفاهيم يحتم على أوباما إظهار الثقة في قدرته على مقاومة الإرهاب، ولكن رد فعل إدارته المبدئي على محاولة تفجير الطائرة في أعياد الميلاد لم يكن كافيا. وحاول الجمهوريون بلا حياء تسييس الحادثة، مدركين أن الدفاع عن منطق بوش في محاربة الإرهاب يتوقف على تشويه منطق أوباما. وكان على الرئيس أن لا يمنحهم أي شيء يمكنهم استغلاله، فقد بدا يوم الثلاثاء ممسكا بزمام الأمور.

لا ينبغي أن نفاجأ بأن معركة المستقبل شكلتها الصراعات حول الماضي، فكم عدد المرات على مدار الأربعين عاما الماضية التي دافع فيها المحافظون عن سياستهم باسم إصلاح «تجاوزات الستينات»؟ بل وظل الليبراليون متهمين لفترة أطول من ذلك بأنهم العقبة أمام «مقاربة الصفقة الجديدة في الثلاثينات من القرن الماضي». وبدورهم أشار الليبراليون بفخر إلى هاتين الحقبتين على أنهما فترات تقدم اجتماعي لم يسبق له مثيل.

وفي ما يتعلق بالثمانينات، فإنها تظل المرحلة الإيجابية المرجعية للمحافظين رغم إدانة التقدميين لعصر ريغان باعتباره العصر الذي فتح الطريق أمام تجاوزات التحرر من القوانين الاقتصادية والذي أسفر عن الأزمة الاقتصادية الأخيرة.

وبشكل غريزي لا يميل الأميركيون إلى العيش في ظلال الماضي، لكننا ليس أمامنا سوى التوصل إلى تسوية بشأن مدلول الأعوام العشرة الماضية، فذلك هو الطريق الوحيد الذي نستطيع من خلاله تحويل الأعوام العشرة المقبلة إلى عقد للتجديد.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»