جنون السراب في أفريقيا

TT

طاف البولندي كابوشنكسي، الذي سمي أحيانا بأعظم صحافيي القرن العشرين، في قارة أفريقيا لأكثر من ربع قرن، خلال الستينات والسبعينات. وأعتقد أنه أهم مكتشفيها وروادها. ليس من أجل استعمارها كما فعل السابقون، ولكن من أجل فهمها والإبحار في جداولها الإنسانية والاجتماعية والبيئية والتاريخية. وقد ظهرت كتاباته (ريبورتاجاته) في كتاب بعنوان «ظل الشمس» أتمنى على ناشري العزيز محمد العبيكان إصداره بالعربية، تحفة من تحف الأعمال الأدبية والصحافية.

في العام 1967 يصل كابوشنسكي إلى نواكشوط، ومنها يتوجه في شاحنة، كالعادة، إلى واحة عوادان، وفي الطريق تتعطل السيارة بالسائق سليم وضيفه. إليكم بقية المشهد بقلم البولندي ذي الحبر العجيب: «كانت الشمس تتسلق أعلى فأعلى. وراحت الصحراء، تلك المحيط الجامد، المخيف، تمتص أشعتها وتزداد حرارة ثم ابتدأت تحرق. أخذت تقترب تلك اللحظة التي يصير فيها كل شيء جحيما: الأرض، السماء، ونحن. تعتقد قبيلة اليوروبا أنه إذا تخلى ظل الرجل عنه فسوف يموت. وها هي جميع الظلال بدأت تصغر وتنكسر وتبهت. ها هي ساعات بعد الظهر المرعبة تحيط بنا، ذلك الوقت من النهار الذي لا يعود فيه للبشر والأشياء ظلال، موجودة ومع ذلك لا وجود لها، لم يبق منها سوى بياض حار يلمع».

«فجأة، لمحت أمامي الأفق الساكت، الذي يبدو أن القيظ طحنه حتى الموت. لكنه فجأة فاض بالحياة وبدا أخضر. وعلى مدى رؤية العين انتصبت شجرات نخيل رائعة، متلاصقة، الواحدة بعد الأخرى. كل شيء كان يبرق ويلمع كأنه غارق في بياض صاعق. وكل شيء، في الأفق ومن حولنا، كان صامتا. لا الريح تصفر ولا عصافير تغني في غصون النخيل». «ناديت على السائق سليم، قائلا: سليم. سليم. انظر. لكنه أخرج رأسه من فوق محرك الشاحنة، ولم ير سوى وجهي الملطخ بالزيت. وعليه رأى أيضا ما أقلقه، فاتجه إلى صندوق الشاحنة وحمل جراب الماء المصنوع من جلد الماعز، وانتهل منه قليلا ثم أعطانيه. قبضت على الجلد القاسي ورحت أشرب. فجأة شعرت بالدوار فاستندت إلى طرف الشاحنة لكي لا أقع. شربت وشربت وأنا أعتصر ساق الجراب وأتأمل الأفق. وإذ بدأت أرتوي والجنون الذي في داخلي يخفت، بدأت خضرة الأفق تزول، وألوانه تمحى. وإذ أفرغت الجراب كان الأفق قد عاد مسطحا وبلا حياة. لقد مددت مياه الصحراء، الحارة، الوسخة، المليئة بالرمل، مددت عمري لكنها أخذت من أمامي ذلك المشهد الذي كان يشبه الجنة. لكن الأهم، أن سليم هو الذي أعطاني المياه. لم أعد أخافه بعد ذلك. لقد شعرت أنني في أمان، على الأقل من الآن وحتى تنتهي آخر نقطة مياه معنا».