الأنفاق تحت الأرض والنفاق فوقها

TT

عندما أتكلم عن الدولة فأنا أعني ذلك التشكيل الذي صممه البشر بعد خبرات وتجارب طويلة من أجل الحفاظ على حقوق الفرد الأساسية. ومن أجل ذلك كانت الدساتير والقوانين والأعراف. ومن أجل ذلك أيضا كانت السلطات الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية وذلك الجيش الجرار من البشر الذين يعملون في القضاء والنيابة والشرطة والأجهزة الرقابية السرية والعلنية.

لست أتكلم عن دولة ثلاثينات القرن الماضي في الاتحاد السوفياتي وألمانيا وإيطاليا التي جسدت تلك الفكرة السخيفة، وهى الكل في واحد، التي روج لها مفكرون رومانسيون كثيرون. وعندما أتكلم عن قوة الدولة فأنا في واقع الأمر أتكلم عن قوتها في الحفاظ على حقوق مواطنيها كأفراد أولا وجماعات ثانيا، وهو أيضا ما يجعلها قوية خارج حدودها. والمجتمع المتميز يتكون من أفراد ممتازين. وتكون الحاجة لهذا النوع من الأفراد أشد ما تكون في المناصب والمواقع الرفيعة، بغير ذلك يصبح انهيار الدولة مسألة وقت. فغير المتميز يشعر بالفزع من تميز الآخرين فلا يبقى أمامه إلا بذل الجهود الجبارة للقضاء عليهم. وبمرور الوقت يحرم الدولة من قوتها المتمثلة أصلا في أفرادها المتميزين. وأنا أؤمن بوحدة قوانين الكون، وأن ما يحدث داخل جسم وعقل الإنسان الفرد هو ذاته ما يحدث داخل المجتمع وداخل الدولة. كما أؤمن أيضا بعكس ما يتصور كثيرون أن الفضائل في أخلاق البشر وسلوكهم هي ذاتها فضيلة الدولة أي قوتها. وإذا كانت خسارة الفرد الممارس للنفاق ضئيلة أو محتملة أو قليلة التكلفة فإنها في حالة الدولة كبيرة للغاية. وإذا كان من حق المواطن الفرد أن يتخلى عن حقوقه لدى الغير أحيانا بدافع من الكرم أو البلاهة أو العجز، فإن الدولة لا تملك هذا الحق لأنه لا يتعلق بمسؤوليها كأشخاص بل يعرض مواطنيها إلى الخطر.

والمعرفة حق أصيل من حقوق الدولة، من الصعب أو من المستحيل تصور أن يستغني مسؤول في الدولة عن هذا الحق في مجال عمله لأي سبب من الأسباب، فإذا كان عمله الذي كلفه به الوطن والمواطنون، هو الحفاظ والسهر على حدود الدولة، وإذا كانت المعرفة هي البداية البديهية في أية مهنة أو عمل، لذلك كان حق الدولة في معرفة الداخلين عبر حدودها والخارجين منها، بشرا وسلعا، أشد الحقوق أصالة. وإنكار هذا الحق فيه إنكار لوظيفة الدولة ذاتها بكل ما تمثله من قوة حماية وترك مواطنيها في العراء عرضة لأخطار يستحيل توقعها والتحكم فيها. استنادا لذلك أقول إن السماح لسنوات طويلة بوجود أنفاق تحت الأرض بين قطاع غزة ومدينة رفح المصرية كان خطأ سياسيا. وهو خطأ من ذلك النوع الذي يظل خطأ حتى بعد تصحيحه بتلك الإنشاءات التي تحدث الآن فوق أرض الحدود وتحتها بهدف تدمير هذه الأنفاق ومنع وجودها. فبهذه الإنشاءات تسترد الدولة حقها في المعرفة، معرفة الداخلين إليها والخارجين منها.

قف من أنت؟ كانت أول ما تعلمناه أثناء الخدمة العسكرية ونحن نقف في نوبات الحراسة، والرد عليها كان كلمة «أمين».. بعدها كان على الشخص الغريب القادم أن يذكر كلمة السر فنسمح له بالمرور، لا يكفي أن يكون أمينا فنصدقه على الفور، بل يجب أن يثبت أنه منا بمعرفة كلمة السر التي يمكن ترجمتها في الحياة المدنية إلى أوراق السفر الثبوتية التي تثبت شخصيتك والهدف من رحلتك. وهو أيضا ما كنا نسمعه من الخفراء في القرية المصرية منذ سنوات طويلة: ها.. مين هناك..؟ لم يكن الخفير في حاجة لكلمة سر الليل لأنه يعرف كل مخلوق في القرية، يكفي أن يذكر اسمه، لم تكن الدنيا قد اخترعت بعد جماعات العنف الثوري مجهولي الهوية والتوجه. هذه الرغبة في معرفة الداخلين والخارجين لا يختص بها مكان دون الآخر على وجه الأرض أو زمن دون زمن، في الواقع أو في الإبداع الفني، سنجدها عند شكسبير في المشهد الأول في مسرحية «هاملت».. إذ يصيح الحرس: من هناك؟ فيرد عليهم برناردو وزميله بجملة: أصدقاء لهذه الأرض ومخلصون للملك.

هكذا ترى أن كلمة «أمين» التي كنا نستخدمها في معسكراتنا في صحراء العباسية، ترجمها شكسبير في مسرحيته التي تدور أحداثها في الدنمارك إلى: أصدقاء لهذه الأرض.. ومخلصون للملك. هذه هي الحكاية، من يرد الدخول من الحدود عليه أن يكون صديقا لهذه البلاد، والأصدقاء لا يمرون من أنفاق تحت الأرض بل من فوقها في انضباط واحترام وتهذيب. أما جملة «ومخلصون للملك» فالمقصود بها أننا ملتزمون باحترام السلطة في هذا المكان.

لم أتصور أن تحدث كل هذه الضجة المعارضة لقيام الدولة المصرية بحماية حدودها بالطريقة التي تراها واجبة، أما الأمر الغريب حقا فهو خلط الأمور وعجنها بعضها ببعض لتصوير الأمر على أن المصريين يحاصرون أهل غزة ويحكمون عليهم الحصار لإدامة تعاستهم وعزلتهم وجوعهم، ثم السخرية من الحديث عن أمن المصريين القومي الذي كان أظهر ما يكون في خطبة الشيخ القرضاوي الذي قال فيها: «يقولون إن أهل غزة الجائعين المساكين التعساء يهددون الأمن القومي للمصريين.. اسمعوا يا قوم..». الجملة الأخيرة صاح بها في أداء درامي مؤثر وكأنه بطل في مسلسل ديني يحرض المؤمنين على الكفار.

لا يا سيدي.. ليس أهل غزة.. بل الجماعات الثورية المنفلتة التي تتسلل - عبر هذه الأنفاق - إلى وادي النيل لترصد البشر والمواقع وتستأجر البيوت الملاصقة لقناة السويس لترصد السفن المارة بها تمهيدا لعمل إرهابي. وحتى لو تحول أهل غزة جميعا إلى ملائكة لطفاء فليس من حق حتى الملائكة أن تمر إلى مصر من تحت الأرض، فالشيطان شاطر كما تعرف، وبالتأكيد من الممكن أن يتسلل بينهم.. لا يا سيدي، غزة ليست أرضا مصرية، هي أرض فلسطينية. ليس من حق مخلوق أن يدخل إلى بلد آخر من تحت الأرض. ماذا يكون موقفك يا سيدي عندما تخرج في منتصف الليل من غرفة نومك متجها إلى الحمام وتفاجأ بوجود شخص يخرج من حفرة في الأرض في صالة البيت؟.. ألا تجد في ذلك ما هو أكثر من التهديد لحياتك؟ لنفرض أنه أحد أشقائك، وأن لديه مشكلة، عنده قضية، وهذه القضية هي أكثر القضايا نبلا على وجه الأرض.. هل توافقه على اللجوء لهذه الطريقة لحلها؟.. لا أعتقد أنك توافق على ذلك.