نجيب محفوظ.. الرجل الساعة!

TT

رغم أن الوظيفة كانت «تأكل نصف يومه» كما يقول الأديب العربي الراحل نجيب محفوظ عن نفسه، فإن ذلك لم يمنعه من إنجاز مشروعه الكبير في تقديم نحو 50 رواية وقصة جميلة للعالم العربي، التي توجت بنيله جائزة نوبل العالمية كأول عربي في التاريخ يستحقها. كل ذلك كان وراءه عزيمة وموهبة والأهم من ذلك «انضباط شديد» في الوقت، حتى إن بعض أصحابه كانوا يسمونه «الرجل الساعة»!

وقال الأديب جمال الغيطاني إنه حينما كان يتوجه إلى سكن الأديب محفوظ لاصطحابه بالسيارة إلى مكان التقائهم اليومي ما يلي: «في السادسة إلا خمس دقائق أنتظر، في السادسة تماما يخرج من باب العمارة». ويقصد أنه اعتاد على دقة مواعيد نجيب محفوظ. والتزامه بالوقت طال حتى أمتع ساعات الأنس مع أصدقائه؛ إذ إن محفوظ، بحسب الغيطاني، «يمضي في المقهى ساعتين بالضبط» ثم يغادر إلى منزله كعادته. وقد خشي الغيطاني أن يتعرض الأديب الراحل إلى محاولة اغتيال ثانية لأن «انتظامه الشديد يسهل على من يرصده توقيت الهجوم»!

وليس هذا فحسب، بل إن حتى ولعه الشديد بالكتابة (مشروعه الكبير) لم يكن يثنيه عن الالتزام في مواعيد يومه، حيث كان يكتب ثلاث ساعات فقط ثم يضع القلم، وقال عنه البعض إنه لا يكمل «الجار والمجرور» إذا انتهى الوقت المخصص للكتابة من شدة التزامه، وربما خشيته من تداخل أدواره الحياتية الأخرى مع ما يحب. وكان يقسم وقته عموما على النحو الآتي: يوم السبت لأسرته، ويوم الأحد حتى الأربعاء للكتابة لمدة ثلاث ساعات، ثم يتبعها بمدة مماثلة للقراءة المكثفة، أما الخميس والجمعة فيقضيهما في التنزه وزيارة الأصحاب والترويح عن النفس. فهو لم يكن منكبا على ما عرف عنه من كتابة وقراءة ناسيا سائر شؤونه الأسرية والشخصية.

ويبدو أنه كان يؤمن بمبدأ إداري شائع في تنظيم الوقت، وهو ضرورة الترويح عن النفس، حيث كان يتوقف كلية عن الكتابة لعدة شهور في السنة، قاصدا التنزه في عطلة الربيع مع أسرته، فهذه الوقفات مهمة للإنسان مهما كان عمله مهمًّا؛ فالرؤساء المتعاقبون على أعظم دولة في العالم، أميركا، يقضون عطلاتهم في لعب الغولف وصيد السمك والتنزه وغيرها، في أحلك الأزمات السياسية، لأنهم يعطون لكل هدف نصيبه المعقول من الوقت.

وعودا إلى أديبنا الراحل نجيب محفوظ، فقد كان يكره إهدار وقته من دون فائدة، ففي أواخر عمره أصيب بضعف شديد في بصره فاستعان بسكرتيره ليقرأ عليه الصحف ومختارات مختلفة، وفي أحد الأيام نسي السكرتير نظارته فقدم له نجيب محفوظ عدسته المكبرة التي كان يحتفظ بها لحالات الطوارئ كهذه ليستعين بها على القراءة وذلك كي لا يهدر وقته المخصص للقراءة.

نضرب المثل بنجيب محفوظ لأنه علم من أعلام العرب وليس غربيا، وذلك استجابة لرغبة بعض القراء الأعزاء. فلنحذُ حذو أديبنا الراحل على الأقل في مسألة حسن إدارته لوقته الثمين.

ومهما كانت مشاغلنا ووظائفنا، لا ينبغي أن تؤثر على مشروعنا وطموحنا وإبداعاتنا، وقد صدق الأديب السعودي غازي القصيبي حين قال إن «الأدباء الموظفين أكثر إنتاجا من المتفرغين» حسب تعبيره، ربما بسبب أن قلة وقت الإنسان تجعله لا يفرط فيه حرصا منه على تحقيق أهدافه المنشودة.

[email protected]