العلماء (ما لهم وما عليهم): لا قداسة.. ولا انتقاص

TT

(ولقارئ أن يسأل: وأين نقطة العلماء التي وردت في العنوان؟.. والجواب هو: أنه يبدو أن الحديث عن العلماء - ما لهم وما عليهم - يستحق مقالا مستقلا، نأمل أن يكون قريبا بإذن الله).. كانت هذه الفقرة تمام مقال الأسبوع الماضي الذي أخذ عنوان (مستعدون للملاحظات حول منهجنا وعلمائنا.. ومستعدون للتوضيح).. ولقد أذن الله جل ثناؤه بإفراد هذا المقال لموضوع العلماء (ما لهم وما عليهم): وفاء بالوعد، واستكمالا لهذه القضية، وبسْطاً لها (على الرغم من كثرة الأحداث المهمة والمغرية بالتعليق عليها).

إن دين الإسلام (علم).. بدليل أن الذي أوحاه إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - قد قال:

أ) «وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا». ب) وقال: «لكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ». ج) وقال: «وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ». د) وقال: «قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ». وإنما يحمل هذا العلم: العلماء به، بدليل قول الله سبحانه: أ) «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ». ب) «أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ». ج) «وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ». والعلم بدين الإسلام: مركب ومتنوع.. فهناك (العلم بالله) عز وجل: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ».. «الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا».. فالعلم بالله يتطلب (خبراء في الطريق إلى الله): خبراء عليمين بوجوده ووحدانيته وأسمائه وصفاته وحقوقه: تقدس وتبارك في علاه.. وهناك العلم بكتابه: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ».. وهناك العلم بسنّة نبيه: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا».. وهناك العلم بمنهج استنباط الأحكام من شريعته: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ».

وهذه المنظومة المترابطة المتكاملة من العلوم تتطلب علوما أخرى - بالضرورة -.. وفي مقدمتها الاستبحار والرسوخ في اللغة العربية. فقد تنزل الوحي بلسان عربي مبين.. ونبي الإسلام ذو لسان عربي أصيل جميل: تناهى في الفصاحة والبلاغة.. ومن هنا، فإنه يستحيل أن يفهم الوحيين ويفقههما امرؤ يعاني (مسغبة) لغوية عربية في فنون الوضع والاستعمال والاشتقاق والإعراب إلخ.. مثلا: كيف يفهم ويعقل ويفقه قول الله تعالى: «أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا».. كيف يعقل ذلك ويعرف دلالته امرؤ عديم الرصيد اللغوي في لسان العرب؟.. كيف يعرف معنى كلمة (ييأس) هنا: من لم يعرف - قبلا - أن معناها (يعلم) عند بعض القبائل العربية، وأن الشاعر العربي (مالك بن عوف النصري) قد أنشد:

أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني

ألم (تيأسوا) أني ابن فارس زَهْدَم

أي، ألم تعلموا أني ابن فارس زهدم.. وهذا مثل (بسيط)، وإلا فإن الرسوخ في لسان العرب هو أول مؤهل للعلم بالكتاب والسنة.. يتوكد هذا بأن (الزيغ) عن المنهج الصحيح - في الفهم والعمل - له أسباب عديدة، من أعمقها وأظهرها وأخطرها: الجهل بلغة العرب: لغة الوحييْن الشريفين.. مثلا: في التحقيق مع شاب يمارس العنف باسم الإسلام - في بلد عربي -.. سئل: لماذا تفعل ذلك والله لم يكلفك به؟.. أجاب: عندي دليل قاطع على التكليف، وهو قول الله تعالى: «فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ».. فسبب هذا الزيغ في الاستنباط هو (الضلال اللغوي) أولا.. يضم إلى ذلك: أن أخا العنف هذا وضع نفسه في مقام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -!! ثم إنه لم يعلم (تكامل المنهج)، ولم يطلع على قول بن عطية - مثلا - حيث قال: (لم يجئ في خبر قط أن القتال فرض عليه (أي النبي) دون الأمة في مدة ما)..

ومن تلك العلوم (اللازمة) للعلم بالإسلام: الإحاطة بأسباب نزول القرآن، وأسباب ورود الحديث.

من هنا، كان لعلماء الدين مكانتهم الجليلة في الإسلام.. ويكفي في الاستشهاد على هذه المكانة العليّة قول الله تعالى: «شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».. فقد قرن - سبحانه - شهادته لنفسه بالوحدانية بشهادة أولي العلم بوجوده ووحدانيته.. وحسب العلماء هذا المقام من التقدير والتكريم والثناء.

بيد أنه من (تكامل المنهج) ومن موازينه العاصمة من الزلل والزيغ: إثبات العقدية الراسخة، وهي: أن لا نبي بعد خاتم النبيين: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ومن العقائد الراسخة - المبنية على هذه -: أن لا عصمة لأحد بعد النبي الخاتم، فلا عصمة إلا لنبي.. ثم من العقائد الراسخة - المؤسسة على العقيدتين الآنفتين -: أن ليس لعالِم الإسلام قداسة ولا عصمة: مهما علا قدره، واستبحر علمه، وتألقت تقواه -. وتجريد كل عالم بالإسلام (من القداسة والعصمة) ضرورة بشرية وعقدية:

أ) فالبشر خطّاؤون بحكم جبلّتهم وتركيبهم البيولوجي والفسيولوجي، ومنهم العلماء بلا ريب، فهم بشر من البشر.

ب) أما الضرورة العقدية الإيمانية فيقتضيها (التوحيد الخالص) لله عز وجل.. كيف؟.. ذلك أن أهل الكتاب من قبلنا كانوا لا يزالون يقدسون أحبارهم ورهبانهم حتى اتخذوهم أربابا من دون الله: «اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ».. بمعنى طاعتهم المطلقة في التحليل والتحريم.. وورود هذه الآية في القرآن له حكمة - قطعا - وهي: ألا تنزلق أمة المسلمين إلى مثل ما انزلق إليه أهل الكتاب: أي جعل العلماء أربابا من دون الله في وظيفة التحريم والتحليل والتشريع. والحمد لله الذي نجّى هذه الأمة من هذا المنزلق القاصم للعقيدة والإيمان.. فلم تزل هذه الأمة تجل علماءها من جانب، ولم تزل تنتقد أخطاءهم من جانب آخر.

والحق أن تاريخنا العلمي - في كل مجال - هو (تاريخ إنشاء واستدراك ونقد وتقويم).. يؤلف (ع) رسالة أو كتابا، فيتعقبه (م) بالنقد والاستدراك.. فعلى سبيل المثال: استدرك الإمام الليث بن سعد على الإمام مالك (عاشا في عصر واحد).. واستدرك ابن حزم وانتقد مجموعة من العلماء الأعلام (بحدة وشدة في كثير من الأحيان).. واستدرك الإمام ابن القيم على شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي، مع أنه زكّاه وشرح كتابه (منازل السائرين).. وانتقد ابن رشد أبا حامد الغزالي.. واستدرك أبو يوسف والشيباني على شيخهما أبي حنيفة.

وهذا النقد الراسخ الصادق الشجاع: ليس مرة في العمر، ولا مرة في التاريخ، بل هو نهج ينبغي أن يطرد في كل عصر وبيئة.. وليس على هذا النقد والاستدراك قيد إلا:

1) قيد (النقد العلمي)، بمعنى أنه لا يستدرك على العلماء إلا امرؤ مكين فيما ينتقدهم فيه.. وهذا الشرط لا يدخل في باب (الكهنوت) ولا في بند القداسة والعصمة، بل هو شرط من (شروط النقد العلمي ومقاييسه)، أو يدخل - لمزيد من التبسيط - في بند (النقد الرياضي) فلا يُسمح لعالم أو مثقف أو طبيب أو مهندس عبقري بأن ينتقد لعبة كرة القدم - مثلا - وهو غير عليم بأصولها وقوانينها وفنونها المختلفة!

2) القيد الثاني هو: الأسلوب العف، والعبارة المهذبة، واللفظ النبيل. فالعلماء (ناس من الناس): ليس يجوز انتهاك حرمتهم وكرامتهم بكلمة نابية، أو قدْح تشهير وغمز. بهذه الضمانات، ينبغي أن يظل باب النقد للعلماء مفتوحا أبدا، ذلك أنه في غيبة النقد تكثر الأخطاء والمجاملات، ويفشو الكسل والاسترخاء والتقصير في الاجتهاد.. وهذا ضرر جسيم يلحق بصورة الإسلام، وبمصالح الأمة، وبالعلماء أنفسهم.. ولا سيما إذا كانت الدولة تحكم بشريعة الإسلام، فإن مسؤولية العلماء تتضاعف - بوجه خاص - في هذه الدولة.. ومن هنا: انتقد ابن تيمية تقصير علماء وفقهاء الكوفة وعجزهم عن (إسعاف) الدولة العباسية بما هي في حاجة إليه من فقه جديد.. يقول ابن تيمية: (منشأ هذا الخطأ - أي الجدب الفقهي ولا سيما في السياسة الشرعية - أن مذهب الكوفيين فيه تقصير عن معرفة سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسياسة خلفائه الراشدين.. فلما صارت الخلافة في ولد العباس واحتاجوا إلى سياسة الناس، وتَقَلّدَ لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيا في السياسة العادلة، احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع!! وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين.. والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السنة فصارت أمور كثيرة: إذا حكموا ضيعوا الحقوق وعطلوا الحدود).