غزة: على من نطلق الرصاص؟

TT

وصول نبأ مقتل حارس حدود مصري برصاص أطلقه إرهابي من غزة، تحت سمع وبصر «بوليس» حماس، قطع موجة قهقهاتي العالية من جدل مناضل فلسطيني ثورجي من بيروت والمقدمة اللبنانية لبرنامج تلفزيوني شاركت فيه، وهما يعترضان على خطوة مصر لحماية حدودها من المهربين.

فبينما تبني إسرائيل جدارا «لحمايتها» من الانتحاريين، وبعضه فوق أراض فلسطينية، يبني العمال المصريون جدار الحدود بأيد مصرية، بمواد مصرية، فوق أرض مصرية، وبالتالي لا شأن لأي مخلوق على ظهر الأرض بها سوى المصريين وحدهم، إذا أرادوا مساءلة حكومتهم عن تكلفته، أو ظهر تلاعب في ميزانيته، أو ما يهم من يمثلون المصريين في برلمانها، ولا شأن لمن لا يسهم في اقتصاد مصر، أو يدفع ضرائب فيها بما تتخذه مصر من إجراءات، وتشيد من منشآت فوق أو تحت أرضها.

لم أكرر على أسماع المناضل والمذيعة المتحمسة ما قدمته مصر للفلسطينيين من تضحيات، واكتفيت بالملاحظة البديهية بالمصري الفصيح بأن «ماحدش ماسكهم»، إذا ما أرادوا استبدال كفاح التهريب إلى غزة بالكفاح المسلح، وأمامهم ساحل البحر الأبيض الفسيح وهو أقل خطورة من الأنفاق سيئة التهوية.

فلا توجد حكومة تتقاعس عن حماية المواطنين من أخطار التهريب عبر الحدود، فهو خطر على الأمن القومي في زمن الإرهاب، كحادثة ضبط أسلحة هربتها إيران من الحدود الجنوبية لمصر، ثم عبور الأنفاق إلى غزة.

كما أسفر التحقيق في حوادث تفجيرات الإرهابيين في المنتجعات على البحر الأحمر عن أدلة مادية بتهريب أجزاء من القنابل من غزة.

والتهريب خطر على الاقتصاد لحرمانه الخزانة من دخل الجمارك على السلع المستوردة، والضرائب من العاملين في نقلها. وخطر على الصحة العامة، فقد تكون السلع المهربة مغشوشة أو فاسدة إذا كانت أطعمة، ناهيك بتهريب المخدرات بأثرها المدمر صحيا واجتماعيا.

تطرقت المناقشة إلى مظاهرات ناشطين من جنسيات مختلفة، في القاهرة ورفح المصرية وأمام السفارات المصرية في بلدان تهتم بعرقلة السلام الفلسطيني الإسرائيلي، قبل اهتمامها بإصلاح اقتصادها المتردي.

جزء معتبر من الناشطين حسن النيات، تصرف بعفوية بعد أن دفعتهم العاطفة لتصديق أي «بروباجندا» دون التأكد من الوقائع والأرقام ومصدرها.

وهؤلاء معذورون لجهلهم بالوضع القانوني، الذي يخضع فتح معبر رفح لاتفاقية دولية قانونية، الطرف الحاسم فيها هو الاتحاد الأوروبي رغم مشاركة مصر وإسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية فيها.

وبما أن السلطة الوطنية الشرعية غائبة عن غزة، منذ انقلاب حماس الدموي عليها مما تسبب في إغلاق المعابر مع إسرائيل أصلا، فإن فتح معبر رفح قانونيا ليس بالسهولة التي يتصورها المتظاهرون حسنو النية.

أما محركو المظاهرات ومنظمو القوافل، فبينهم «محترفون» في إثارة هذا النوع من المتاعب السياسية لاكتساب الشعبية في أوساط اليسار الأوروبي المعادي لأميركا، ويعتبر الحرب على الإرهاب - ومصر في خندقها الأمامي - جزءا من الاستراتيجية الأميركية.

ومثلما يفعلون سواء في قمة الثمانية أو كوبنهاغن، فهم يسعون إلى استفزاز البوليس في القاهرة أو رفح طمعا في عناوين مثيرة في الصحافة اليسارية الأوروبية.

بعضهم حقق الثروات عن طريق جمع التبرعات من أصحاب النيات الحسنة باحتجاجات وقوافل تموين مشابهة تضامنا مع العراق في أثناء العقوبات الاقتصادية على نظام صدام حسين.

استبدلوا غزة بالعراق، وبجانب التبرعات هناك مكسب الدعاية من الإعلام اليساري قبل خوضهم الانتخابات في بلد كبريطانيا.

الحقائق مغيبة عمدا من الإعلام اليساري، والتيار القومجي الذي يريد توريط مصر في حروب كالتي عهدتها الدولة البوليسية الناصرية بعد أن أدارت الأمة المصرية ظهرها لمراهقة الحرب.

كم من القراء مثلا اطلع على أرقام كنسبة وفيات الأطفال في مصر التي تزيد على ضعفي مثيلتها في غزة؟ حسب أرقام منظمة اليونيسيف 2007، فإن وفيات الأطفال المصريين دون الخامسة هي 66 بين ألف طفل، بينما هي 27 في كل ألف في غزة. ونسبة عدد الأطباء لكل ألف من الفلسطينيين يبلغ ثلاثة أضعاف النسبة في مصر، وبينما تتاح لـ74 في المائة فقط من نساء مصر فرصة الولادة في المستشفى برعاية طبية، و70 في المائة فقط بالعناية والفحص الطبي في أثناء الحمل، فالنسبة تبلغ 99 في المائة في الحالتين لنساء غزة.

والأرقام نفسها تتكرر بالنسبة إلى التطعيم ضد الأمراض، وتوفير الوجبات الغذائية المتكاملة، وعدد المدارس الابتدائية، وعدد الأطفال في كل فصل، فتبدو مصر كعالم ثالث، بينما تقارب أرقام الخدمات في غزة مثيلاتها الأوروبية.

فالمعونات من الأمم المتحدة والغرب «الاستعماري الكافر» (أميركا وحدها تقدم سنويا 85 مليون دولار لوكالة غوث اللاجئين، زادتها 20 مليونا هذا العام، 9.7 مليون للصليب الأحمر لغزة، 3.7 مليون استثنائي العام الماضي) هي التي تمول تلك الخدمات، ويتقاضى اللاجئ الفلسطيني 350 دولارا شهريا من الوكالة، بينما يتقاضى الطبيب المصري المتخرج حديثا 90 دولارا شهريا في بلاده.

في مؤتمر شرم الشيخ لإعمار غزة، الذي انعقد بمبادرة مصرية، قدم العالم أربعة مليارات ونصف مليار دولار، أي 3214 دولارا نصيب الفرد في غزة، أي بما يعادل ضعفي نصيب الفرد من الناتج القومي في مصر (1796 دولارا).

أليست الحروب التي خاضتها مصر، ثلاث من أجل الفلسطينيين، كانت السبب الرئيسي للخلل الاقتصادي وانخفاض مستوى الخدمات لمواطنيها؟

حماس، وتحديدا قيادتها السياسية، ومقرها الشام لا غزة المحاصرة، بمقدورها رفع الحصار عن غزة فورا، بالالتزام باتفاقيات وقعتها السلطة الشرعية الفلسطينية المعترف بها دوليا (حماس ترفض الاعتراف بإسرائيل)، سواء أوسلو أو اتفاقية مكة التي استضافتها السعودية بالضبط لتجنيب شعب غزة «المعاناة».

ويمكن لحماس إصلاح ما أفسده متطرفوها، وما أفسده اختراق إيران لها، بالعودة إلى مظلة السلطة الشرعية حسب اتفاق مكة، وتفتح المعابر فيعود أكثر من 80 ألف فلسطيني إلى أعمالهم في إسرائيل، ويفتح معبر رفح للتجارة المشروعة.

أم هل ترغب حماس في إبقاء الثروة فقط في أيدي عصابات «بيزنس» التهريب عبر الأنفاق؟ غزة يمكن أن تصبح «دبي» أخرى، ولديها ثروة طبيعية من السياحة بشواطئ تنافس الريفيرا، ومياه إقليمية تحتها الغاز الطبيعي. ويمكن للغزاويين أن يحققوا بالثروة ما عجز التكفيريون عنه بالثورة، وأن يوجهوا الشكر إلى مصر على محاصرة عصابات التهريب، بدلا من توجيه رصاص الإرهاب إلى صدور حراس حدودها.

وبدلا من التظاهر في شوارع القاهرة، فليوجه من يريد مساعدة الفلسطينيين جهده لإقناع قيادة حماس السياسية في دمشق بإنهاء فقر الحرب وبدخول عصر الرخاء، هذا إذا كان التظاهر لمصلحة الفلسطينيين ليس ضمن الممنوعات في الشام.