شرطي مصري قتيل على الحدود مع الأصدقاء

TT

قتل شرطي مصري شاب على الحدود المصرية في الشمال. أصيب في رأسه بطلقة رصاص أطلقها عليه قناص فلسطيني من إحدى الجماعات الثورية الفلسطينية من داخل مدينة رفح التابعة لقطاع غزة الذي تحكمه جماعة حماس التي يمكن اعتبارها الفرع الفلسطيني لجماعة الإخوان المصرية. الشرطي الشاب كان يقف في نوبة حراسة أعلى برج خشبي. وفي المساء شاهد المصريون على الفضائيات الشرطي المغدور به بينما زملاؤه ينزلونه جثة هامدة من فوق البرج. الحدود كانت متوترة في ذلك الوقت بعد وصول قافلة «شريان الحياة 3» إلى الحدود المصرية بقيادة السيد جالاوي عضو مجلس العموم البريطاني في طريقها عبر معبر رفح إلى قطاع غزة، ثم اصطدام أعضائها بالشرطة المصرية التي رفضت دخول السيارات الملاكي الخاصة الحديثة، بعد أن رأت أنه لا معنى لدخول سيارات خاصة إلى غزة لا تحمل مؤنا ولا معونات، وربما لأنها رأت فيها هدايا للمسؤولين من حماس مكافأة لهم على شيء لا نعرفه. ودخل السيد جالاوي غزة وخرج منها إلى القاهرة حيث عاد سليما معافى إلى لندن في طائرة، في الوقت الذي عاد فيه الشرطي المصري في سيارة إسعاف إلى قريته ليتسلمه أهله جثة هامدة.

وفي المساء شاهد المصريون الحزانى آثار الفاجعة على وجوه أهل الشرطي الشاب، الأم العجوز والأب الشيخ يبكيان في تعاسة، وأيضا خطيبته الفلاحة الصبية التي كانت في انتظاره ليعقد قرانه عليها بعد أسبوع. وناقش ضيوف الفضائيات ما حدث، كما أدلى أصحاب المكالمات التليفونية كل بدلوه. وفي اليوم التالي حكى لنا أحد مقدمي البرامج حكاية غريبة، إحدى السيدات ذهبت إلى بيته وأصرت على الصعود إليه في شقته لتسليمه خطابا على الرغم من رفض حارس المبنى، من الواضح أن لديها ما تقوله، ومن الواضح أيضا أنها عجزت عن الاتصال بالبرنامج كما يحدث لمعظم الناس، لذلك قررت أن تذهب بنفسها إلى مقدم البرنامج، لتضمن وصول رأيها المكتوب إليه. الخطاب طويل كما يبدو من عدد صفحاته، ليس من المعقول أن يضيع وقت البرنامج في قراءته، لذلك قام بتلخيص الأفكار الأساسية التي جاءت فيه.. وهى: لو أن الشهيد عاد إلى الحياة مرة أخرى لقرر أن يموت لينعم بالشهادة.. إن أول نقطة دم تسفك من دمه تغفر له كل ذنوبه، كما تغفر أيضا كل ذنوب سبعين شخصا من أقاربه فيدخلون معه الجنة.

نحن هنا أمام مثال شديد الوضوح لثقافة الموت التي ينتجها التطرف بدأب وبلا كلل، وقدرتها على تزييف الواقع وتزيينه بخرافات لا صلة لها بالدين أو السياسة أو الحياة بشكل عام. في الوقت الذي انشغل فيه سكان وادي النيل من أصحاب العقول الطبيعية بالجريمة نفسها وهي إطلاق الرصاص على شرطي مصري شاب يقف مؤديا واجبه الذي كلفه به بلده، وفي الوقت الذي انشغلنا فيه جميعا بفاجعة أهله وخطيبته وأهل قريته، وفي الوقت الذي شعرنا فيه جميعا بأهمية وحتمية تسليم الجاني للعدالة، بينما نحن منشغلون جميعا بكل هذا القبح انشغلت هي بالبحث عن الجمال في مكان آخر. والله لو أنني مسؤول في الدولة المصرية لجندتها على الفور في سلاح الحدود لتقف حارسة في نفس البرج لعل ساعات الحراسة الطويلة تتيح لها أن تفكر كما يفكر الناس، وتعطيها الفرصة لعمل مراجعات للأفكار التي ثبتها المتطرفون في عقلها وجهازها النفسي.

القتل هو التيمة (Theme) الأساسية التي يدور حولها تفكير المتطرف، رغبته في تحويل البشر جميعا لجثث هامدة هي رغبة قوية حارقة يرى أنه لا بد أن يخفيها تحت شعارات دينية لكي تكون مقبولة لمن حوله. غير أنه في أعمق أعماقه يشعر بالذنب لوجود هذه الأفكار المعذبة بداخله وعجزه عن التخلص منها. لذلك يسعى لإقناع الجميع بها. ولما كان الجميع بعيدين عن تأثيره وسيطرته لذلك يكتفي بهؤلاء الذين يستطيع الوصول إليهم. وفي الحالة التي نحن بصددها سنرى أن السيدة بذلت مجهودا غير عادي للوصول إلى مقدم البرنامج وإيصال أفكارها المتطرفة إليه بأمل أن يقوم هو بإيصالها إلى جمهوره فتنجح بذلك في تحويل مشاهدي البرنامج جميعا إلى قتلة. لا يوجد قاتل اغتال هذا الشرطي في جبن وخسة، يوجد فقط شهيد وشهادة. ليس هذا فقط، على أهله جميعا أن يفرحوا لأن سبعين شخصا منهم أصدرت السيدة قرارا بأن يدخلوا الجنة.

هي تطلب من السلطة المصرية - وسلطة حماس بالطبع - ألا تفكر في الوصول إلى الفاعل وتقديمه للعدالة، عليها أن تنسى ذلك اكتفاء بأن القتيل سيدخل الجنة. أما أهله وأهل قريته والمصريون جميعا فعليهم أن يخجلوا من جهلهم بما حصل عليه هذا الشاب من نعيم. يا لها من كلمات حق يقصد بها كل الباطل.

الأفكار المتطرفة تكره الحياة لعجزها عن التوافق معها، لذلك تعمل على القضاء عليها أو في القليل تقبيحها وإدانتها والعمل على حرمان الناس من مباهجها. وكأن الله سبحانه وتعالى خلق لنا الحياة لنعمل في أول فرصة على التخلص منها. المتطرف راغب في القتل غير أنه عاجز عن ممارسته ولكنه قادر على اكتشاف العناصر التي يمكن تحويلها بالتحريض الناعم المزين بأقوال تبدو دينية ظاهريا، إلى قتلة. المتطرف المحرض ضعيف للغاية، غير أن كل قوته تكمن في التحريض الناعم المستمر الذي يخدع به أصحاب العقول الضعيفة. هذا هو ما يجب أن يفهمه رجل الدولة. عليه ألا يجامل أو ينافق أي متطرف محرض، إن التراجع أمام المتطرف سنتيمترا واحدا يعطيه الفرصة - وربما الحق أيضا - في التقدم للأمام خطوات. المتطرف يقرأ نواياك ويقيس أفكارك ليعرف حدوده التي لا يجب أن يتخطاها. يقول إريك هوفر في كتابه «The true believer»: «تكلم مع المتطرف برفق ولكن دعه يرى بوضوح السوط المعلق على الحائط خلف مكتبك.. هذا فقط ما سيدفعه للاعتدال».