مكافحة العنف الديني: سباق بين التربية والكارثة

TT

عام سعيد للجميع. الفشل مشترك. لأميركا. لأوروبا. لإيران. للعرب. لـ«القاعدة». للإسلام الحربي. للحرب على الإرهاب. راكب عابر في طائرة أمسك براكب آخر يتعرّى لتفجير حزامه الناسف. الثلوج التي تسخر من سخونة البيئة لم تمنع إدارة أوباما من فرض التعري على ملايين الناس. قررت أميركا إمعان النظر في «عورات» ركاب الطائرات، نساءً ورجالاً، للتأكد من أنهم يحملون أحزمة العفة والبراءة، وليس الأحزمة الناسفة.

«الستريبتيز»، إذن، سلاح أميركا الجديد لمكافحة العنف الديني، بعدما أخفقت الأجهزة المخابراتية والإجراءات الأمنية التي كلّفت مئات مليارات الدولارات، في منع طالب نيجيري ترك جامعته في لندن، ليتلقى «هدية» عيد الميلاد من الواعظ أنور العولقي الذي ترك أميركا، ليختبئ في تورابورا اليمنية.

بعد ثلاثين سنة، عاد الإيرانيون من «جنة» الحكم «الآياتي» بِخُفَّيْ نجاد وخامنئي. أما العرب فقد أمضوا ثلاثين سنة، وهم يحلمون بالجنة الترابية ذاتها، فقد خيمت على رؤوسهم ومجتمعاتهم ثقافة الدروشة. باتوا مستسلمين للاعتقاد بالحلول الغيبية الجاهزة.

مسكين الرئيس أوباما. لا ثقافته الرفيعة تنفعه. لا الفشل الأمني والمخابراتي يردعه. فهو أيضا رئيس غربي آخر يؤمن بفلسفة استخدام القوة. يعيش أوباما مع أسامة عصر إدمان العنف، ممارسة القوة ثقافة غربية تاريخية لم تهذّبها سلمية المسيحية المهاجرة من الشرق. تعامل الغرب بالقوة مع نفسه. مع العرب. مع صُفر آسيا. مع حمر أميركا. مع سود إفريقيا.

هل أبرّئ العرب؟ هم أيضا استخدموا القوة، لاستكمال بناء وطنهم القومي. لنشر رسالتهم الأممية. مزجوا الجهاد بالعدالة بالمساواة. انتشر الإسلام بالسلم أكثر مما انتشر بالحرب. عاش العرب في إسبانيا ثمانية قرون. لم يجبروا الإسبان خلالها على اعتناق الإسلام.

الدين، أي دين، ليس مرآة واحدة. كل يفسره حسب مصلحته. بعضهم يبالغ في تأويله، وصولا به إلى البدع الخارجة على التيار الديني العامّ. بعضهم يُخضِعه لثقافة عصره. يرى فيه ماركسية. اشتراكية. رأسمالية. ليبرالية. ابن لادن يرى فيه أداة لصراع بين حدين: الإيمان والكفر. الخير والشر. العدل والظلم. هذا التفسير الساذج المنطوي على أحادية الثقافة والتربية، غير القادرة على إدراك تعقيدات العصر، هو الذي يورّطه في مواجهة مع عالم «كافر» أقوى يمارس مثله القوة. العنف. القتل الجماعي.

جهادية أسامة المتزمتة لا تصلح حتى لمجتمع متدين. أسامة لا يريد إسقاط أنظمة. يريد عملاء انتحاريين لنحر «كفار» العالم معهم. لذبح مجتمعات إسلامية يتهمها بـ«الجاهلية». أسامة لا يريد تسوية مع الغرب. يريد استدراجه إلى حرب استنزاف في «ديار الإسلام». أسامة لا يقرأ التاريخ. لا يعرف أن الحروب الصليبية والغزوات المغولية والتتارية دمرت جهدا عربيا علميا استغرق بناؤه خمسة قرون.

كيف يمكن للعرب وللمسلمين الخروج من دوّامة هذه الازدواجية العدائية بينهم وبين الغرب؟ كيف يمكن للغرب تفادي التعامل بالقوة مع العالم الإسلامي؟ الغرب يحتل الآن، كليا أو جزئيا، إحدى عشرة دولة إسلامية. كيف يمكن للغرب تفادي القيام بغزو واسع وشامل للعرب، في حرب عالمية، تبدو بوادرها في هذا الشحن الإعلامي، إثر الفشل في ضبط الطالب النيجيري؟

الحل السلمي، بين المسلمين والغرب، هو في أَنْسَنَة التربية في العالمين العربي والإسلامي. إقامة علاقة بين المدرسة والمعرفة الإنسانية.. لا تخلِّي عن الإسلام. إنما تطوير المناهج الدينية. إدراج تدريس العلوم الإنسانية الحديثة في المدرسة الرسمية والدينية. الاستغناء عن التلقين والتحفيظ. إرساء منهج الحوار بين المعلم والطالب. إشراك الطلاب في إدارة المدرسة. خلق قيم إنسانية مشتركة مع العالم. مع المجتمع. مع الحياة.

الحل السلمي في ربط الجامعة بالرأسمال البشري. ربط الجامعة بالتنمية. بالبحث العلمي. بالأيدي العاملة. بالإنتاج. بالتدريب المهني. بعلم الإدارة للدولة وللمشروع الاقتصادي. أرسى جمال عبد الناصر مبدأ ديمقراطية التعليم. أتاح المدرسة للملايين. لكن التوسع الأفقي أزرى بمستوى التربية والثقافة. أصبحت المدرسة والجامعة مرتعا خصبا للتعصب الديني.

حاول فتحي سرور وزير التربية (يرأس حاليا مجلس الشعب في مصر) تجاوز مأزق انهيار الثقافة التربوية، بالمناداة بتخصيص مدارس وجامعات للأذكياء والمتفوقين. المبدأ قديم. أفلاطون دعا إلى طبقة واعية، على أساس التربية. بل اعتبر التربية قيمة معرفية جمالية. كان «التخصيص» ينطوي على عنصرية تربوية تحابي النخبة الذكية.

هـ. ج. ويلز يقول إن التاريخ سباق بين التربية والكارثة. المدرسة الدينية الباكستانية أنتجت خلال السنين العشرين الأخيرة، مليون خريج. يصلحون وعاظا وأئمة. لكن لا يعرفون شيئا عن العالم. عن العلوم الحديثة. عن التنمية. هؤلاء المتعطلون عن العمل ما لبثوا أن شكلوا أجيالا طالبانية، بمعرفة المخابرات الباكستانية. ما حدث عبرة لكل نظام يتحالف مع «الجهاديين». طالبان أفغانستان أنزلت كارثة بأفغانستان. انطلقت منها «القاعدة» لتدمير أحد أعلى رموز الرأسمالية الغربية. كان الرد غزوا فاجعا. طالبان الباكستانية تغزو اليوم ثكنات العسكر والمجتمع المدني بالانتحاريين حاملي الأحزمة الناسفة.

أيضا، أميركا «القديس» جيمي كارتر وأسقفه الأمني زبيغنيو برزجنسكي حالفت إسلام أسامة الحربي. جَنَتْ أمس واليوم ما زرعت. إدارة ريغان شاركت في تأسيس «القاعدة». وربت خمسين ألف «مجاهد» بينهم أسامة نفسه. تكلفت عملية التأسيس ثلاثة مليارات دولار، حسب معلومات حميد غول جنرال المخابرات الباكستانية الأسبق. انسحبت أميركا من «القاعدة» فكفّرها أسامة بعدما «قدّسها»!

إخفاق المدرسة الدينية جعل المستشرقين الأميركيين الجدد يفلسفون، للتيار السياسي المحافظ، مبدأ استخدام القوة ضد العالم الإسلامي. برنارد لويس وصموئيل هنتينغتون أرسيا نظرية «صِدام الحضارات والثقافات». ألمحا إلى أن الصراع مع العالم الإسلامي لا يحسم إلا بالقوة. ديك تشيني، في أحاديثه الخاصة يطمح إلى قيام الغرب بغزو العالم الإسلامي، لتدمير الإسلام الحربي، تماما كما تم تدمير الفاشية الأوروبية في الحرب العالمية الثانية. إدوارد سعيد يعترف بأن هناك صراع حضارات وثقافات. لكن يختلف عن لويس وهنتينغتون بإدانة الاستشراق الغربي في عدائه للإسلام، وإجازته للاستعمار تقسيمَ العرب، على أساس الفرز الطائفي.

علاقة التربية بالثقافة لا تحتاج إلى توضيح. الواقع أن رواد الثقافة العربية الأوائل لم يستطيعوا التوفيق بين الإسلام والحداثة. أخفق العرب حيث نجح العرق الآسيوي الأصفر في التربية بعد اليابان، تأتي كوريا الجنوبية أنموذجا في تطوير تقنية الحداثة، لإقامة مجتمع صناعي مزدهر. تتبعها الصين والهند وإندونيسيا.

عجز العرب عن تقبل قيم الحداثة ترجم بالخيبة التي انعكست بالرِّدَّة. الانغلاق. فالتزمُّت. من الإسلام التقليدي. إلى الإسلام الإخواني. إلى إسلام قطب العصبي. إلى الإسلام الجهادي. فإسلام القاعدة الحربي. إلى جيل طالباني يمني. باكستاني أفغاني رافض لكل القيم. جيل تدربه وَتُلَقِّنُهُ شرائح واسعة من الوعاظ. يرسلونه إلى الانتحار. وهم آمنون في مخابئهم وخرائبهم من المُسَاءَلَة والملاحقة، سواء من الدولة، أو من الإسلام الإخواني والتقليدي.

حقا، إنه سباق بين التربية والكارثة. بين سلمية المدرسة وفلسفة القوة. بين المجتمع المدني والإسلام الحربي. بين حَذَرِ النظام وطيش التنظيم.