السياسة الخارجية التركية بحلتها الجديدة

TT

وقف وزير خارجية تركيا الأكاديمي أحمد داوود أوغلو الأسبوع المنصرم أمام أكثر من 200 سفير يمثلون بلادهم في أرض الله الواسعة، ليناقشهم مطولا في الخيارات والبدائل الجديدة للسياسة الخارجية التركية الواجب التعامل معها بسرعة وجدية خلال الـ13 عاما المقبلة. فعام 2023 هو موعد الذكرى المئوية لإعلان الجمهورية الحديثة التي وضع أتاتورك أسسها واختار لها أنظمة وقوانين كان للغرب حصة الأسد فيها، وهي التي أبعدت تركيا عن الشرق ومحيطها الإسلامي لعقود طويلة.

في كلمته التي أرادها داوود أوغلو أن تكون على شكل محاضرة يناقش خلالها أولويات استراتيجيات السياسة الخارجية التركية الجديدة مع خبراء وصناع القرار الخارجي التركي، وهو الجامعي الذي حصل على لقب سفير فوق العادة وتسلم دفة القيادة حتى دون أن يكون نائبا في البرلمان وعضوا في حزب العدالة والتنمية فكتبه ومؤلفاته وأفكاره كانت كلها بطاقة تزكيته لتسلم مثل هذا المنصب الحساس الذي يثير شهية الكثيرين ويسيل اللعاب، حاول أن يقول باختصار إن العدالة والتنمية ومنذ أكثر من 7 سنوات تحديدا تريد أن تضع نهاية لهذا الخلل التاريخي والجغرافي والثقافي، وتصحيح الصورة المقلوبة، وإعادة القطار إلى خطه الأصلي الذي خرج عنه مرجحا الغرب على حساب الشرق.

داوود أوغلو رسم باحتراف صورة الوضع القائم اليوم والتحولات التي شهدتها السياسة الخارجية التركية في السنوات الأخيرة والتي وضعت في مركز الثقل المصارحة والمصالحة مع الجوار الإقليمي الذي مكن أنقرة من أخذ مكانها بين الدول الاقتصادية الكبرى أولا وإثبات قدرتها على الجلوس أمام طاولة الدول الخمس أو الست الكبرى بعدما أظهرت خبرة دبلوماسية واسعة في إدارة الأزمات أو التوسط فيها أو رفع شعار تبريدها بانتظار توافر الظروف والشروط الملائمة للمعالجة.

هو توقف مطولا أيضا عند المشاكل والمتطلبات الواجب التعامل معها بجدية في المرحلة المقبلة، مؤكدا أن تطلعات تركيا الخارجية والهيكلية التنظيمية التي تحدد هذه السياسات تحتاجان معا إلى مراجعة شاملة في التخطيط وطرح الأولويات وإعادة ترتيب الهيكلية التنظيمية لوزارة الخارجية. داوود أوغلو أشاد مثلا بافتتاح 12 ممثلية وبعثة دبلوماسية خلال العام المنصرم وفي أكثر من منطقة أهملتها تركيا لسنوات طويلة، لكنه أصر على أن تكون خطوة العام الحالي تدشين 26 ممثلية جديدة إذا ما كانت تركيا تبحث فعلا عن مكان لها تحت شمس أكثر من جغرافيا ودولة.

هو طالب أيضا برفع عدد العاملين في السلك الدبلوماسي وبأسرع ما يمكن إذا ما كانت الخارجية التركية مصرة على مواصلة تحركها وانفتاحها الدبلوماسي الواسع على العالم. ففرنسا مثلا تفاخر بأن هناك أكثر من 5800 دبلوماسي يقودون سياساتها الخارجية، بينما تضم الخارجية البريطانية 5700 دبلوماسي، وإسبانيا 2500، فيما لا يزيد عدد الطاقم الدبلوماسي التركي على 1500 شخص. هذا دون أن يهمل دعوته لتوظيف الدبلوماسيين الجدد الذين لا يكتفون بتعلم الإنجليزية والفرنسية، بل يعرفون أيضا لغة سكان المنطقة وشعوبها كالروسية والفارسية والأرمينية والعربية إذا ما كانت تركيا تريد فعلا الاستمرار في سياسة الانفتاح والانتشار الخارجي هذا.

داوود أوغلو كان حاسما عندما طالب بأن تتمحور الأفكار والسياسات والأساليب حول 5 نقاط أساسية: الثقة بالنفس، قول ما هو صحيح وواقعي، التحليل المركز المصحوب برؤية واسعة للمسائل وتفاصيلها، التمتع بقابلية المرونة وسرعة الحركة في اتخاذ القرارات، وأخيرا استمداد قوة الانطلاق في السياسة الخارجية من قوة الداخل بجوانبها التاريخية والاجتماعية والاقتصادية بالدرجة الأولى.

نصحنا داوود أوغلو كدبلوماسيين وخبراء أتراك بأن تظل راداراتنا لناحية الرصد والمتابعة تعمل على مدار الساعة في منطقة لا بد لنا من استيعاب وهضم موقعها وأهميتها ودورها في رسم وتحديد سياسات العالم، وأن نستعد ابتداء من هذا العام لترجمة الجوانب النظرية الكثيرة التي رددتها ورفعتها أنقرة كشعارات ومسلمات في سياستها الإقليمية إلى برامج ومشاريع عملية تكاملية ائتلافية واسعة بعيدا عن الاستبعاد والاستعداء والتهميش.

هو استعان بقول شهير لأتاتورك أطلقه في مطلع العشرينات خلال حرب الاستقلال والتحرير «لا لمقولة خط المدافعة بل نعم لاستراتيجية سطح المدافعة الذي يصل إلى أبعد نقطة في أرض الوطن»، ليقلب المعادلة هو الآخر قائلا «لا لمقولة الخط الدبلوماسي، بل نعم لاستراتيجية السطح الدبلوماسي الذي يشمل خارطة العالم بأكملها وإلى أبعد الأماكن».

قبل أيام لم يتمالك أحمد داوود أوغلو نفسه وهو يتفقد جرحى أحد التفجيرات في العراق الذين استضافتهم أنقرة للمعالجة. فهو كان يداعب الطفل العراقي الذي جهش بالبكاء أمامه مطالبا بأن تكون والدته إلى جانبه، فقال إنه سيكون له ما أراد «فأحمد هو ابننا أيضا»، فكان جواب الصغير المفاجئ «أحمد هو في مقام والدي أيضا». هذا هو المفتاح الحقيقي والسحري للدبلوماسية التركية وما تبقى كله مجرد تفاصيل وتفرعات لا أكثر.