أوباما الياباني في الشرق الأوسط!

TT

هذا المقال هو نتاج حديث ومناقشة مع الصديق الدكتور وليد عبد الناصر، سفير مصر في طوكيو؛ ولكنه قبل الوظيفة وبعدها عالم من علماء السياسة المرموقين، وله كتب ومقالات عدة في علاقات الحضارات صراعا وتوافقا في آن واحد. وبشكل من الأشكال كان نتاج الحوار نوعا من البداية للخروج من الحيرة - الأميركية والعربية والعالمية - التي عبرتُ عنها في مقالات سابقة دون ترتيب أو قصد. هنا يبدو العالم وقد تبلور من جديد بعد عاصفة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وما تبعها من حروب وأحداث عاصفة، حول رد الفعل الأميركي الذي أنجب تجربة باراك أوباما والتي أصبحت في حد ذاتها منفصلة عن الشخص ذاته وعادت أفكاره إلى أصولها في الفكر السياسي لكي تختط طريقا للدول والعلاقات الدولية.

المثال هنا في حالتنا هو اليابان والتي جرى فيها تغيير كبير في شكل الحكومة وأفكارها وأساليبها لا يقل جذرية عما جرى في الولايات المتحدة. فقد كان لتغير القيادة اليابانية بوصول الحزب الديمقراطي الليبرالي الاجتماعي للسلطة، آثاره في الدنيا كلها حينما أدرك المتخصصون في العلوم السياسية والعلاقات الدولية أن هناك تغيرا عميقا لم يلاحظ من قبل يحدث في الحياة السياسية اليابانية، وتفاجأ العامة ووسائل الإعلام غير المتخصصة بالإشارات التي بعثت بها اليابان نفسها ووسائل الإعلام الدولية، والتي أصبحت الآن جزءا لا يتجزأ من نمط الحياة في الشرق الأوسط.

ومصدر المفاجأة هو التصور العام الذي كان سائدا عن اليابان في العالم، والذي كان يتعامل معها ككائن اقتصادي أكثر من كونها كائنا سياسيا، وكان وقع المفاجأة أكبر عندما أعلنت الإدارة الجديدة في اليابان عن سياساتها الداخلية والخارجية، والتي عبرت عن صوت أكثر استقلالية لليابان في مواجهة الولايات المتحدة بصفة خاصة. وقد مثل ذلك ضربة على الوتر الحساس لدول الشرق الأوسط والدول العربية، التي طالما تاقت إلى نظام متعدد الأقطاب توازن فيه قوة واشنطن بعض القوى الصاعدة، كالصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، وبالطبع اليابان.

ولم تكن تفاصيل التغيير هي القضية، فلم يهتم أحد بخصائص رئيس الوزراء الجديد يوكيو هاتوياما، ولم يكن هناك اهتمام بطبيعة النظام السياسي الياباني، فالقلة في العالم يعرفون الكثير عن النظام الياباني، بخلاف الطبيعة البرلمانية للنظام، والقيادة المستقرة والدائمة للحزب الديمقراطي الليبرالي المحافظ. ورغم ما عُرف عن الحزب من تغير قياداته في السابق وحاليا، فإن سياساته وتوجهاته ظلت كما هي. وكان عادة ما يتم التعامل مع الطبيعة الباسيفيكية لليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وتبعيتها شبه الكلية للولايات المتحدة في تحقيق أمنها وحتى في اتجاهات سياساتها الخارجية، كمرتكزات لدولة أخذت دروسا لا تنسى من خبرتها قبل الحرب العالمية. وعندما بدا أن اليابان تتنافس على دور عالمي جديد بمشاركتها في القوات الدولية لحفظ السلام، أو بالتقرب من الدول العربية بعد الأزمة النفطية في 1973، كان ينظر لهذا التغير على أنه محدود، أو أنه يفتح آفاقا جديدة لنفس السياسات الأميركية.

رغم ذلك، كان ما أعلنت عنه الإدارة اليابانية الجديدة والإشارات التي بعثت بها أقوى من أن يتم تجاهلها، وبطريقة ما بزغت فكرة «اليابان الجديد» من بيئة دولية ومحلية كانت تقود فيها الولايات المتحدة العالم للفشل، وهذا ما عبر عنه شنها الحرب على أفغانستان والعراق، ومثلت سياساتها في باكستان دليلا ليس على فشل السياسات أو تراجع الاستراتيجيات، وإنما على القيادة غير الحكيمة للأمن العالمي. وقد تركت الأزمة الاقتصادية العالمية التي ترجع جذورها إلى الاقتصاد الأميركي انطباعا بأنه لا ينبغي أن يعهد للولايات المتحدة، على الأقل بمفردها، تحقيق الرفاهية للعالم. ولم يقتصر ثمن الأخطاء الأمنية والاقتصادية التي ارتكبتها الولايات المتحدة على المعاناة التي تسببت فيها، وإنما تعداها إلى الإسهام في صعود الصين كقوة عالمية بما منحته لها من فوائض في ميزانها التجاري وما سمحت به من احتياطيات دولارية جعلت بكين شريكا أساسيا في الاقتصاد الأميركي.

في ظل ذلك، ولد «اليابان الجديد» ليتعامل مع حقائق جديدة في عالم دائم التغير، ولا ينبغي أن يتم النأي بالتغيرات الجديدة في سياسة اليابان الأمنية والخارجية عن موقف الحكومة الجديدة من الاقتصاد المحلي. فاليابان، أو «اليابان الجديد»، يسعى لإعادة تكوين نفسه محليا ودوليا ليس ليستقل عن الولايات المتحدة فقط، وإنما أيضا ليشارك في إعادة صياغة نظام عالمي جديد بات من الصعب التحكم فيه أو إقراره. وكانت الإشارات التي بعثت بها اليابان تجاه الشرق الأوسط والصراع العربي - الإسرائيلي بمثابة الموسيقى لآذان العرب، الذين طالما طالبوا اليابان بالتدخل في الصراع الذي تعمق بسبب تبني الولايات المتحدة سياسات متحيزة لأحد طرفيه.

إذا كانت هذه التصورات هي المهيمنة على الشعوب المهتمة ووسائل الإعلام في الشرق الأوسط، فقد ذهب المتخصصون في مناطق العالم الأخرى إلى ما هو أبعد من الخطب الرنانة، ووجدوا بعضا من لمسات أوباما آتية هذه المرة من اليابان وليس من واشنطن. فمطالبة الحكومة الجديدة بالتعاون الدولي، وإنكارها قدرة الولايات المتحدة على أن تدير بمفردها شؤون العالم، وإعلانها عن الحاجة إلى توافق القوى الدولية لإدارة شؤون العالم، كلها جزء لا يتجزأ من خطاب أوباما؛ فبطريقة ما استجاب الناخبون اليابانيون للدعوة للتغيير التي أتت من الجانب الآخر للمحيط الهادي عندما انتُخب باراك أوباما لقيادة الولايات المتحدة. وإذا كان الأميركيون قادرون على اختيار رئيس لهم من أصل أميركي – أفريقي، فإنه لا ينبغي التعجب من اختيار اليابانيين حزبا جديدا لقيادة الدولة بعد مدة طويلة من هيمنة حزب واحد، أو كما سماه بعض المعلقين، مجموعة واحدة من السياسيين.

هذه الأوضاع إذن أدت إلى مخاض طبيعي أنتج عالما جديدا و«يابان جديد»، وبطريقة ما تسبب انتهاء الحرب الباردة في 1989 بعد انهيار حائط برلين، وتكثف الاعتماد الدولي المتبادل نتيجة العديد من الثورات التكنولوجية، وأحداث 11 سبتمبر 2001 وما تبعها، في قلب العالم رأسا على عقب، ومثل هذا التغير مثل دعوة للجديد في أصوله ومداخله وقدراته ليواجه المخاطر ويستفيد من الفرص المتاحة. وهكذا فإن التغير في اليابان هو جزء من تغير أكبر وأعمق في العالم كله، والذي بات يتطلب النظام والتنظيم، وتبدو مجموعة العشرين هي المنتدى الذي سيواجه هذه التحديات، وكالمعتاد سيقود مجموعة العشرين توافق القوى، وستقود المجموعة بدورها العالم. واليابان تستعد لمثل هذه التطورات من خلال التغييرات غير المسبوقة في سياساتها الداخلية والدولية. وعلى كل الأحوال فربما كانت بداية الخروج من الحيرة تحتمل قدرا غير قليل من الغموض، ولكن المعضلة لدينا في العالم العربي، خاصة أن تغيرات القيادة لا تجري في اتجاه الأمام بقدر ما تكون صيحة تذهب إلى الخلف، أو فيها نداء بنوع أو آخر من الماضي الذي راح.

مصر في هذا تمثل مثالا مثيرا، فرياح التغيير التي تهب عليها حاليا لم تأت بأوباما أو هاتوياما، بل أتت بالدكتور محمد البرادعي الذي أنهى حياته الوظيفية توا وبطريقة مشرفة للغاية في الوكالة الدولية للطاقة، والسيد عمرو موسى الذي خدم الدبلوماسية المصرية بشرف، والعربية باقتدار خلال العقدين الماضيين، والسيد منصور حسن الذي كان وزيرا مرموقا للثقافة والإعلام مع الرئيس أنور السادات، والسيد سامح عاشور رئيس اتحاد المحامين المصريين الأسبق، وآخرين مثلهم من المرموقين والمحترمين، ولكن جميعهم ينتمون إلى نوع أو آخر من تاريخ ذهب. ولكنه ليس هو التاريخ الوحيد الذي يأتي إلينا، فربما كان هناك الأقل عمرا ولكنه يفكر بفكر قرون سبقت أيضا، ومن يستمع إلى قادة الإخوان وأحزاب قومية سوف يجد بعثا لأربعة عشر قرنا أو لعقدي الخمسينات والستينات يراد زرعها - بالقوة أو بالسلم - في تربة القرن الواحد والعشرين. فهل يوجد لدينا قدر خاص في كل العصور وهو أن نأتي دائما متأخرين أو نسير في «الاتجاه المعاكس» في كل الأحوال؟!