المجاملة

TT

أحد (الرجال) وقد مضى على زواجه أعوام عديدة، قرر وهو بكامل قواه العقلية والعاطفية والجسدية، أن يثنّي على زوجته - أي أن يتزوج عليها بثانية، وفعلا خطب امرأة أخرى. ويبدو أن زوجته كانت متعلقة به جدا، لأنها من هول صدمتها أصيبت بإغماءة هي أقرب إلى السكتة الدماغية، ونقلوها على وجه السرعة إلى غرفة الإنعاش في المستشفى.

إلى هنا والأمر شبه طبيعي، فما أكثر الرجال الذين يعددون، وما أكثر النساء اللواتي يعانين من ذلك، غير أن (النذالة) في الموضوع أن ذلك الرجل قد حدد مقدما موعد زفافه على خطيبته، فقد قام بإكمال تجهيزات زواجه يوم الخميس، وتصادف أن زوجته الأولى توفيت مساء الأربعاء، وأقيم سرادق العزاء في ذلك المساء، غير أن (حضرته) لم يكلف نفسه أدبا حتى لو من باب (المجاملة)، ويؤخر موعد زواجه الجديد، غير أنه من شدة لهفته ركب رأسه ولم يغير البرنامج، وهذا هو ما حصل فعلا، أي إنه بعد 24 ساعة (في اليوم التالي مساء يوم الخميس) أقيم حفل الزواج في منزل قد استأجره، ودخل على عروسه وهو يضحك وسط مباركات وزغاريد الحضور، واستمرت الأفراح والليالي الملاح ثلاثة أيام كاملة، مثلما هي ليالي العزاء في زوجته الأولى المتوفاة. فكان يذهب إلى بيته الأول من بعد صلاة المغرب ويمكث هناك إلى صلاة العشاء ليتقبل مع أبنائه التعازي في زوجته الراحلة، ثم يذهب سريعا إلى منزله الجديد المستأجر ليتقبل التهاني بزوجته الجديدة.

ولا أدري كيف استطاع أن يجمع النار والماء في وعاء واحد؟!، وأي عضلات مرنة وخارقة في ملامح وجهه استطاعت أن تتكيف وتكتسي بالحزن الشديد ثم بعد ساعة تكتسي بالفرح الشديد؟!

لا تظنون أنني أؤلف أو أتجنّى، فما أنا إلا ناقل لخبر مكتوب حدد فيه المكان والزمان.

ولكن هل تدرون، إنني لا أملك إلا أن أحسد هذا الرجل على قوة أعصابه وبلادته وموهبته التي لم يسبقه إليها أحد.

وما أبعد الفرق بيني وبينه من ناحية (المجاملة)، إذ إنني من بعد درس بليغ تعلمته من رجل حكيم خرق به طبلة أذني من كثرة ما كان يحثني على (مجاملة) الآخرين، غير أنني للأسف لم أتعلم الدرس جيدا، وخلطت بين المديح، والمجاملة، والتملّق.. بعد ذلك الدرس بعدة أيام، كنت ضمن المدعوين في حفلة شبه ساهرة، وكان من ضمن الحضور سيدة أرملة وغنية ومستصحة وكبيرة في السن، وكانت تقريبا تتصدر المجلس، بينما كنت أنا أجلس في ركن قصي على أطراف المجلس، ولاحظت أنها كانت تأكل بشهية بالغة وبشكل متواصل من طبق ممتلئ (بالمكسّرات)، وما هي إلا فترة حتى شطبت عليه وأصبح الطبق خاويا، عندها تذكرت نصيحة أو درس الحكيم في فن (المجاملة)، فما كان مني إلا أن أقوم من مكاني مثل (نزغة إبليس) وأتناول الطبق الذي أمامي والممتلئ بالمكسّرات، وأذهب وأضعه أمامها قائلا لها بكل أدب وجهالة: يا ليته كان (زمردا) ليكون على قد مقامك يا مدام. وكنت أعتقد أنها سوف تسر وتشكرني على مجاملتي تلك، ولكنني تفاجأت عندما انتفضت وهي تزيح الطبق من أمامها بكل قرف قائلة لي: أنا من فين أعرفك وأنت من فين تعرفني حتى تقول مثل هذا الكلام البايخ، زمرّد إيه وهباب إيه اللي أنت بتتكلم عليه؟!

تراجعت للخلف وكدت أسقط من شدة كسوفي، ولعنت الدرس وأبو المجاملة وأبو (اللقافة).

وأخشى ما خشيته أن تلك (الليدي) كانت تظن أنني طامع فيها.

ولكنني قبل أن أخرج أسرّ أحدهم بأذني قائلا: اعذرها فلديها اضطرابات نفسية، عندها هدأت وقلت: الله يشفيها ولا يبلانا.