غزة.. الحصار مرهون بعلاقات حماس الإيرانية

TT

بعد اشتباك العريش الذي سقط فيه ضحايا من بينهم شرطي مصري فإن المفترض أن أصحاب القلوب الطيبة والنيات الحسنة قد أدركوا أن تظاهرة «شريان الحياة 3» التي تنقل بها جورج غالوي، الذي لمع نجمه في مرحلة ظاهرة «الكوبونات» النفطية في آخر أيام عهد صدام حسين، عبر البحور وبين العواصم، لم تكن خالصة لا لوجه الله ولا لوجه غزة وأن غايتها وهدفها ليس الانتصار لـ«لقطاع» المحاصر وأهله البؤساء وإنما الإمعان في إحراج مصر ومواصلة الضغط على نظام الرئيس حسني مبارك وكل هذا في إطار الاستقطاب الذي تقوده إيران لفرض نفسها كرقم أساسي على معادلة هذه المنطقة.

ربما لم يدرك كثيرون أن سبب إصرار جورج غالوي على أن تسلك قافلته الطريق التي سلكتها، قبل أن يصطدم بالرفض المصري ويعود إلى البحر الأبيض المتوسط لينطلق من اللاذقية على السواحل السورية في اتجاه غزة، حيث بعد الوصول إلى العريش افتُعلت تلك المعركة مع المصريين، هو أنه أراد أن يبدأ من «النويبع» المصرية رحلة عبر قناة السويس تتحول عبر توقفها في المناطق والمدن التي تمر بها إلى مظاهرات صاخبة يقوم الإخوان المسلمون المصريون بالتحشيد لها ونقلها إلى القاهرة والمدن الأخرى لزعزعة نظام الرئيس حسني مبارك وفقا لمخطط إيراني يشارك فيه بعض العرب لإبعاد الأضواء عن الأحداث التي تشهدها إيران ولكسر الحلقة الرئيسية في السلسلة العربية.

كل ما رُفع من شعارات وما أطلق من هتافات خلال هذه الرحلة، التي تشبه «مسجد الضرار»، لم يكن موجها إلى إسرائيل التي تحاصر غزة بل إلى مصر، وكانت الخطة أن تتحول «شريان الحياة 3» بمجرد وصولها إلى «النويبع» إلى تظاهرة متنقلة يبادر الإخوان المسلمون إلى نقلها إلى القاهرة وإلى المدن المصرية الأخرى وهذا ما يؤكده إصرار جورج غالوي على المرور بقناة السويس والتوقف في كل مدنها ليُستقبل بحشود من الجماهير «الغفورة» التي سيتم تحشيدها سلفا في إطار الهدف الحقيقي لكل هذا الذي ينطبق عليه ذلك المثل القائل: «كلام حق يراد به باطل».

إنه على الذين يختلفون مع هذا الاستنتاج ويخالفونه ويعتقدون، ويصرون على هذا الاعتقاد، أن جورج غالوي قد جاد هذا الزمان الرديء به ليبدأ تحرير فلسطين على يديه «الطاهرتين»! أن يسألوا أنفسهم عن سبب عدم توجه «شريان الحياة 3» مباشرة ومثلها مثل القوافل السابقة من قبرص أو من اللاذقية أو بانياس أو أي ميناء آخر من مواني البحر الأبيض المتوسط إلى غزة ليكون الإحراج للإسرائيليين لا للمصريين وليكون ضغط الدوافع الإنسانية على إسرائيل لا على مصر والحكومة المصرية. لماذا أصر ثائر آخر زمان الأممي الذي كان قد لمع نجمه في زمن «كوبونات» صدام حسين النفطية على أن تكون رحلة «شريان الحياة 3» هذه التي ثبت أنه أريد لها، والأيدي الإيرانية وغير الإيرانية غير بعيدة عن هذا، تظاهرة متنقلة عبر الحدود الدولية وأن تمر بسورية وأن تصل إلى ميناء العقبة الأردني لتنتقل بعد ذلك إلى «النويبع» المصرية ولتتحول إلى بؤرة استقطاب لزعزعة الأمن المصري في كل مناطق توقفها المحددة على طول قناة السويس؟! في كل الأحوال وسواء اكتفى جورج غالوي بمعركة العريش أم استمر بلعب دور «البيدق» الصغير على رقعة الشطرنج الإيرانية فإن المفترض أن ما أصبح مؤكدا ومعروفا ولا خلاف عليه ولا نقاش حوله هو أن غزة بحصارها وبحربها وبصواريخها الدخانية وبانقلابها وانفصالها عن الضفة الغربية وبمأساة أهلها قد أصبحت خندقا متقدما في حروب الاستقطابات الإقليمية ولهذا فإن مصر باسم التضامن مع حماس ومع الشعب الفلسطيني تعرضت ولا تزال تتعرض لكل هذه الحملة المتواصلة التي كان عنوانها معبر «رفح» ثم أصبح «شريان الحياة 3» والآن جاء دور الجدار الذي بدأ المصريون بإنشائه لحماية بلدهم من المخدرات ومن الأسلحة المهربة ومن «الإرهابيين» الذين يتم تدريبهم في معسكرات حركة المقاومة الإسلامية وغير حركة المقاومة الإسلامية ليتم تصديرهم إلى الأراضي المصرية وهناك شواهد كثيرة على هذا الأمر وهناك قصة شبكة «حزب الله» المعروفة.

لو أن غزة لم تصبح خندقا متقدما في حروب الاستقطاب الإقليمي الذي تقوده إيران لنجحت مصالحة مكة المكرمة بين فتح وحماس ولما وقع الانقلاب الدموي الذي قامت به حركة المقاومة الإسلامية ضد السلطة الوطنية ومنظمة التحرير ولما كانت حرب العام الماضي التي خلفت في «القطاع» المنكوب كل هذه المآسي وكل هذا الدمار وبالتالي لما كان كل هذا الحصار ولحُلّت قضية الأسير الإسرائيلي منذ فترة بعيدة وبالتالي لما كان كل هذا الاستهداف لمصر ولدورها في المنطقة وتجاه القضية الفلسطينية ولما أُفشلت كل مساعيها الخيّرة فعلا لرأب الصدع الفلسطيني المفتعل أساسا ولإتمام صفقة جلعاد شاليط الآنفة الذكر.

لقد ركّزت حماس ومعها كل الذين يستهدفون مصر ودور مصر على معبر رفح مباشرة بعد انقلابها المشؤوم والانفصال بدويلة غزة البائسة لأنها كانت ولا تزال تريد فرض اعتراف القاهرة بهذه الدويلة فرضا وعلى حساب السلطة الوطنية ومنظمة التحرير التي يعترف بها العالم كله ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني والتي لها سفارات في معظم دول هذا العالم وعلى غرار سفارات الدول الأخرى العربية وغير العربية.

لو أن الهدف ليس إحراج مصر وليس الضغط عليها وتشويه صورتها ومواقفها لحساب التطلعات الإيرانية في المعادلة الشرق أوسطية لما كانت هناك حاجة لا لجورج غالوي ولا لـ«شريان الحياة 3» ولا لكل هذه الاستعراضات البهلوانية، ولو أن حماس ترغب فعلا في فك الحصار المفروض على غزة بعيدا عن حالة الاستقطاب الإقليمي الغارقة فيها حتى الذقن لما استطال هذا الحصار كل هذه الفترة ولما بقيت قضية شاليط عالقة على هذا النحو. لقد كان بإمكان حماس أن تتفادى حرب غزة المدمرة الأخيرة لو أنها ليست مجرد «بُرغٍ» في الآلة الإيرانية الكبيرة، فعدم تجديد الهدنة مع إسرائيل التي كانت انتهت قبل هذه الحرب بأيام كان قرارا إيرانيا في إطار تحالف «فسطاط المقاومة والممانعة» والأهداف هنا معروفة وبالتالي فإن استمرار الحصار الذي يتظاهر ضده جورج غالوي بهذه الصورة الاستعراضية الممجوجة هو قرار إيراني وأن أسْر شاليط هو قرار إيراني أيضا عبر قناة حزب الله اللبناني وأيضا فإن المفاوض الحقيقي في صفقة الإفراج المتعثرة هو قائد فيلق القدس التابع لجيش حراس الثورة الإيرانية.

إنه لا بد من أن تقال كل هذه الحقائق بكل صراحة ووضوح وإن من بين هذه الحقائق أن من يرِد فك الحصار عن غزة لا يتقصد تلاؤما مع «أجندة» هذا التحالف الإقليمي الذي تتزعمه إيران استهداف مصر بهذه الطريقة الاستفزازية وإفشال كل جهودها الخيرة فعلا إن لجهة إنجاح المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية وإن لجهة إتمام صفقة شاليط على أرضية مصالح الشعب الفلسطيني المتضاربة مع التطلعات الإيرانية لدور رئيسي في هذه المنطقة.

إن الطريق إلى فك الحصار المفروض على غزة معروفة، وإنه لا حاجة إلى جورج غالوي وتظاهرته المتنقلة التي لا هدف لها إلا إحراج مصر خدمة لإيران وتحالفها المعروف، وإنه إذا أرادت حماس أن تفك هذا الحصار فعلا فإن عليها أولا أن تنأى بنفسها عن هذه القاطرة الإقليمية التي تضع نفسها فيها وإن عليها أن تعود إلى رشدها وتقبل بالوساطة المصرية لإنجاز المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية ثم عليها أن تقبل بإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية التي يدعو الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) لإجرائها وفي أقرب فرصة ممكنة.

أما أن تبقى حماس مرتبطة بالحلف الإيراني كل هذا الارتباط وأن تعادي مصر كل هذا العداء وأن تُبقي على غزة كخندق منحاز إلى ما يسمى «فسطاط الممانعة» في هذه الاستقطابات الإقليمية، فإن الحصار سيستمر وإن صفقة شاليط ستتأخر وإن غالوي سيبقى نجما لامعا في مسرحية «شريان الحياة 3» هذه الرديئة والمكشوفة.