أنت «تركيا» بلادي

TT

.. والآن جاء دور لبنان ليلحق بالركب الشرق أوسطي ويفتح قناتي تواصل مع تركيا: دبلوماسية - هي «تحصيل حاصل» في أجواء التوثق المتنامي في العلاقة السورية التركية - وعسكرية يجوز وصفها بالجريئة، لأنها تأتي بعد قليل من تهديدات رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، لحكومة سعد الحريري في إشارته إلى أن حكومته «تعتبر أن القرار 1701 قد انهار» وفي تحميله للدولة اللبنانية (بأكملها) «مسؤولية أي عملية ضد أهداف إسرائيلية من حدودها الشمالية.. أو في الخارج».

لماذا السعي إلى تعاون عسكري تركي - لبناني وسط هذه الأجواء المتوترة بين كل من لبنان وإسرائيل (إثر رفض الحريري استبعاد حزب الله من حكومته) وتركيا وإسرائيل (بعد إلغاء أنقرة لمناورات «نسر الأناضول» واستبعاد إسرائيل منها وإعلانها بعد ذلك بقليل عن مناورات سورية – تركية مشتركة)؟

قد يكون «السكوت» الأميركي على هذه التطورات مفتاح الجواب عن هذا السؤال، على اعتبار أن «تدهور» علاقات تركيا مع إسرائيل من جهة، وتوثقها مع سورية ولبنان، من جهة ثانية، تمّا من دون أي تعليق أميركي رسمي عليهما، مما يوحي بأن هذا التحول المستجد على دور تركيا في الشرق الأوسط لا تعرقله واشنطن، إن لم تكن تحبذه. يصعب التقليل من التداعيات الإسرائيلية لعملية التحول التركي، بدليل مسارعة رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، إلى الإعلان بأن دور الوسيط التركي في مفاوضات السلام غير المباشرة مع سورية «انتهى»، وأنه في حال إصرار سورية على استمراره لن تقبل إسرائيل إلا بطرف ثالث هو فرنسا.

ولكن رد دمشق بأن استئناف المفاوضات مع إسرائيل لن يكون إلا من خلال الوسيط التركي، وترحيبها بأن يصبح هذا الوسيط أميركيا فور - وفي حال - الانتقال إلى مرحلة التفاوض المباشر، يشكلان خلفية دبلوماسية لتطور لم يعد مستبعدا: تبلور محور شرق أوسطي تتطلبه المرحلة الراهنة، يضم تركيا وسورية ولبنان والسعودية ومصر، وتكون إحدى ميزاته أنه لا يتعارض مع رؤية إدارة أوباما لتسوية الملفين الإيراني والفلسطيني. فبقدر ما يشكل هذا المحور ضغطا غير مباشر على إسرائيل، فإنه يعزز توجه الرئيس أوباما إلى تقديم أجندة حل «الدولتين» (الفلسطينية والإسرائيلية) على المواجهة المباشرة مع ملف إيران النووي. بمنظور استراتيجي يبدو التمدد التركي الدبلوماسي والعسكري على ساحة الشرق الأوسط مرشحا، أميركيا، «لموازنة» الاجتياح «الثوري» الإيراني للمنطقة، وفي الوقت نفسه لتشكيل «مظلة» دبلوماسية وأمنية لدول لا تزال تقع في دائرة التهديد الإسرائيلي، وخصوصا لبنان.. وهذه المظلة أصبحت ضرورية عشية انسحاب القوات الأميركية من العراق العام المقبل، وفق أجندة أوباما المعلنة.

على هذه الخلفية تعتبر عودة تركيا إلى «ملعبها الخلفي» في الشرق الأوسط عملية تعديل هادئ لموازين القوى العسكرية في المنطقة، ليست بالضرورة معادية لإسرائيل بقدر ما هي مناهضة لإيران، الأمر الذي يفسر «سكوت» واشنطن على الدور التركي الجديد في المنطقة.

باختصار، تركيا تعود إلى «ملعبها الخلفي» متمتعة بـ«رضا» واشنطن و«مباركة» أوروبا (التي ترى فيها تعويضا معنويا لتركيا عن إقفال أبواب الاتحاد الأوروبي بوجهها).. و«تململ» إسرائيلي مبالغ فيه على ضوء تأكيد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، بنيامين بن أليعازر، خلال زيارة لأنقرة قبل شهرين تقريبا، أن التعاون بين إسرائيل وتركيا هو على ما هو عليه من «التواصل الإيجابي»، وأنه لم ولن يتغير، مما يوحي بأنه أكثر ارتباطا بدبلوماسية أوباما الشرق أوسطية منه بالنزاع العربي – الإسرائيلي.

يبقى أن لعودة تركيا إلى المشرق العربي مردودا داخليا لا يستهان به لحكومة رجب أردوغان، فإذا كان الشارع التركي يعاني من عقدتي خسارة الخلافة الإسلامية والعضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، الوضع الذي تعبر عنه المقولة الشائعة بأن تركيا كانت «أول المسلمين فأصبحت آخر الأوروبيين».. فماذا يضيرها أن تعود أول «الشرق أوسطيين» على الأقل؟