مفاوضات الإسمنت والحديد

TT

حسنو النية وحدهم، وهم بالمناسبة أكثرية في عالمنا العربي.. وأقلية في إسرائيل، من ظلوا يقيمون وزنا للتحركات السياسية الأميركية، الهادفة إلى إنعاش عملية السلام، وإخراجها من حالة الاحتضار الشديد، إلى حالة احتضار أقل.

وحسنو النية هؤلاء، ينتظرون زيارة المبعوث الأميركي جورج ميتشل إلى المنطقة، ويضخمون تلميحاته «بأن الإدارة الأميركية ستعاقب إسرائيل لو ثبتت إعاقتها عملية السلام».

وعلى الأرجح أن تواجه واشنطن صعوبة في إثبات الدور السلبي لإسرائيل، بعد كل المبادرات النوعية والإيجابية التي أقدم عليها نتنياهو، ولقيت استحسان سيدة الدبلوماسية الأولى هيلاري كلينتون!

فمن غير نتنياهو، يقدم على تنازل التجميد المؤقت وغير العملي للاستيطان، ومن غيره يملك المقومات السحرية، التي جعلت رئيس التغيير أوباما، ينزل هرولة عن أعلى التلة، مضحيا بمبادرته الفلكلورية المدهشة التي أقدم عليها حين لعب على وتر حسن النية العربية والإسلامية، ناظما معلقة ينقصها أن تكتب بماء الذهب، مرسلا إياها مع كل الحب من قلب جامعة القاهرة..

وإلى أن يأتي ميتشل، مستأنفا زيارات مكوكية، سبقته إلى تسجيل رقمها القياسي السيدة كونداليزا رايس - لمن لا يزال يذكر - يواصل العرب الانتظار، ويواصل نتنياهو العمل.

ولأن بيبي مولع بالمبادرات المميزة من كل النواحي، فقد عقد العزم على تقديم واحدة جديدة تضاف إلى جهوده السلمية الدؤوبة ليستقبل بها ميتشل، قوامها، جدار جديد، يغلق الحدود مع مصر، ويمنع التسلل حتى من قبل الزواحف والطيور المهاجرة، وهذا الجدار الذي لا يتصل جغرافيا مع جدارنا في الضفة، إلا أنه أعمق وأوثق اتصال سياسي وأمني وتفاوضي، إذ إن دبلوماسية الجدر مع دبلوماسية العمل المسلح والاستيطان أضحت تشكل منظومة العمل الأساسي بالنسبة لإسرائيل.

فبعد الانتهاء من جدارنا، وتواصل الاستيطان أمامه ووراءه، عادت نغمة القمع المسلح بطائرات الـ«إف 16» لتملأ الآذان، ذلك بعد أن تم تجويف قرار غولدستون، وتسجيله في موسوعة التقارير غير الملزمة، بل وتم تعزيز عمل الـ«إف 16»، برسالة إلى مصر تجسد رؤية إسرائيلية جديدة للسلام، مما يتطلب جدارا جديدا، أقوى فاعلية من كل الاتفاقيات وتراث العلاقات السلمية غير الراسخة!

وحين تكتمل الجدر، في الوسط والجنوب، لن تجد إسرائيل بعدما تعود الرأي العام فيها على خيارات من هذا النوع، ما يمنع من إقامة جدار شمالي، سواء جرى اتفاق مع سورية ولبنان أم لم يجر، وشرقي إذا ما اكتشف الإسرائيليون وجود مصنع ألعاب نارية في الشونة!

وإذا ما حاولنا تفسير دبلوماسية الجدران، وغاياتها المباشرة وغير المباشرة فقد نجد من يقول إن الأمن الإسرائيلي على أهميته، يبقى ذريعة أكثر منه أولوية، ومن هنا يمكن استنتاج حقيقة سياسية تعمل إسرائيل بكل قدراتها على تكريسها والنسيج من حولها، وهي الحل المفروض، الذي تكون الاتفاقيات منطلقة منه ولسان حالها يقول: «هذه إسرائيلنا وراء الجدر، ولكم ما يفيض عن الحاجة، فاشكروا الله في سركم أنكم حصلتم على شيء».

كان ذلك ما فكر فيه شارون قبل أن يغط في غيبوبته المتمادية حين انسحب من غزة وبعض شمال الضفة، واعدا بمواصلة العملية من طرف واحد إلى أن يصل إلى الجملة المفيدة: «هذا ما تبقى لكم» فإما إن تأخذوا وإما أن لا تأخذوا..

إنه استنتاج وجيه، يعزز اليقين بأن مفاوضات الجدر هي سهم جديد في جعبة الاستراتيجية الإسرائيلية، لفرض الحل على الفلسطينيين والجيران، ذلك أن الجدار يصلح لترسيم حدود أكثر منه لتأمينها، وفي زمن الاستفراد الإسرائيلي فليس على أقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط، سوى تضخيم ترسانة الحديد والإسمنت، إذ لم يعد غيرها لم يجرب بعد! والحبل على الجرار.

* وزير إعلام سابق وسفير فلسطين السابق لدى مصر