كفانا

TT

عاش جيلي في عصر فني جميل، بلغت السينما فيه مرتبة الشعر والفكر، وأحيانا تجاوزت كل شيء، إلى مرتبتها هي. وقد صار بعض الممثلين، في مواهبهم وأدائهم وحضورهم، «أبطالا» في حياة الناس. وتدافع الناس بالملايين لمشاهدة أعمالهم. وإلى جانب الممثل كان السيناريو رائعا، والحوار أثيرا، والموسيقى كانت حلما. وعندما بدأ الإيطاليون «السينما الواقعية» كبرت قامات الممثلين أكثر، وتعاظم دور المخرج، وازدادت نسبة الجمال النادر، من صوفيا لورين إلى التونسية كلوديا كاردينالي. ولمعت في آفاق الفن التاريخية أسماء مثل فيلليني وفيتوريو دوسيكا وزيفريللي وغيرهم، ممن نقلوا وهج إيطاليا من المتاحف الجامدة إلى السينما المتحركة.

كانت أهمية الفن أن يرتقي بالمُشاهد، وأن يعمق رؤيته لنفسه ومحيطه، وأن يضع اليوميات الصغيرة تحت مكبر عبقري، شاعري، يتجاوز سطحيات الأشياء وسخافات الحياة إلى معانيها البشرية. هذا ما عاشه جيلي. والآن، أشاهد على التلفزيونات العربية، وأنا في انتظار نشرة الأخبار، مقاطع إرغامية إكراهية من «تلفزيون الواقع». وتدور فصول هذه البرامج دائما في غرف النوم، وعلى مداخل الحمامات، لأن المنتج العبقري اكتشف ما غمض على سواه منذ آلاف السنين، وهو أننا ننام ونذهب إلى بيوت الخلاء. وتقتضي «الواقعية الجديدة» أن نسمع حوارات بين شبان وشابات، تتميز بالضحالة وسوء التعبير والخلو من أي جملة مفيدة لأي كان، من أي عمر كان، من أي ثقافة أو سخافة أو تفاهة كانت. ولست أريد أن يكون كل من يظهر على التلفزيون غاري كوبر أو فاتن حمامة، ولكن ماذا يحمل إلى الشاشة، كلَّ هذا الوقت، كلُّ هذا الغلط، كلُّ هذا التتفيه للذوق البشري والحس السليم؟ ليس المطلوب من التلفزيون أن يكون مدرسة، ولا جامعة، ولا معهدا، ولا تربية. السلوى تكفي أحيانا. لكن في الوقت نفسه ليس مقبولا أن يتحول إلى أداة لتسخيف الحياة، وخفض التفكير، وتتفيه الاهتمامات، وتكبير وتعظيم الترهات، وجعلها هي البطولة، وهي الحياة، وهي جمالياتها، وهي معناها، وهي كل شيء.

لا نريد أن تكون كل برامج التلفزيون جديدة. ما أجمل وأحب البرامج الضاحكة، أو الساخرة. وما أجمل البرامج الرومانسية. وما أجمل ما يقدم لنا هذا الجليس الجديد من طرب، ومن نغم، ومن تسليات خفيفة. لكن «تلفزيون الواقع» بشاعة كاملة، وقباحة مطلقة، وحط متعمد من مستويات الشباب العربي، وتدريب إجباري على تدني الذوق، واحتقار الإحساس. «تلفزيون الواقع» و«أغاني الواقع» و«موسيقى الواقع» و«شعر الواقع»، ذريعة غبية لنشر قلة الذوق وتعميم انعدام المواهب، وبسط دناءة الاستسهال الفكري وجعله مقبولا مثل الإسهال المعوي. ولن أعتذر عن أي مفردة وردت في تناول هذه الظاهرة الساقطة، بل أعتذر منكم لأن اللياقة لا تسمح بوصف «الواقع» بأكثر مما فعلت أو بأقل.