تجربة لن تكرر

TT

قبل أن يتوفى والدي بعدة أشهر كنت معه في مزرعته الواقعة بين القصيم وحائل، وعنّ له يوما أن يمتطي جوادا، فأشفقت عليه وهو يومها قد تجاوز العقد السابع من عمره، وحاولت أن أثنيه عن ذلك، فضحك هو مني إشفاقا عليّ، وأحضرنا له الجواد وأسرجناه، ثم امتطاه وكأنه ابن العقد الثاني من عمره، ولم أشاهد وجهه أكثر إشراقا منه في ذلك اليوم، وكنت أظن أنه سوف يسير به عدة خطوات ثم ينزل، لهذا كنت أسير بجانبه خوفا عليه من السقوط، وإذا به يدفع الجواد ويسير «خببا»، وتحول مشيي بجانبه إلى ركض، وفجأة انطلق بالجواد بأقصى سرعته، فما نابني إلا أن يكشح الجواد التراب من حوافره على وجهي.

فخطر على بالي أن أركب السيارة وأتبع والدي خوفا عليه، غير أن أخي منعني من ذلك قائلا: دعه مستمتعا يستعيد أيامه الخوالي، ولا تحرمه أو تضايقه بسيارتك التي لو أراد هو لركبها، فوقفت أتابعه حتى اختفى عن ناظري، ثم عاد مرة أخرى، وقبل أن يصل إلينا انحرف مبتعدا وارتقى هضبة عالية، ثم انحدر منها بأقصى سرعة، وظل على هذه الحال بين كر وفر ما لا يقل عن ساعة كاملة، والغريب أنني كنت أخشى ركوب ذلك الجواد بالذات لأنه كان «حرونا»، وأبديت تعجبي كيف أنه أصبح أطوع له من بنانه، فرد علي أخي وكأنه يريد أن يخرسني قائلا: الخيل تعرف ركّابها «يا خبل»، عندها لزمت الصمت إلى أن عاد لنا وهو منشرح الخاطر، وما أن نزل من على ظهره حتى بادرني قائلا: «الخيل عز للرجال وهيبة». ضحكنا معا، فقلت له: الحمد لله على السلامة، فقال باستغراب: نعم؟! ثم التفت إلى أخي قائلا: هل سمعت؟! إنه «يتحمد» على سلامتي وكأنني رجعت من معركة طاحنة، وربت على كتفي قائلا: الله يهديك، الله يهديك، هيا تقدم واركبه بعدي. كان هذا عرضا منه لم أتوقعه إطلاقا، فأسقط في يدي، وصرت أتمتم بيني وبين نفسي: «جاك الموت يا تارك الصلاة»، ولكي لا أتهم بالجبن ركبته وكنت في قمة خوفي، وما أن استويت على ظهره حتى انطلق بي وأنا أردد «يا ساتر استر»، حاولت بشتى الوسائل أن أكبح جماحه من دون أية فائدة، بل إنني كلما جررت العنان محاولا إيقافه كان يزداد تعنتا وجموحا وإصرارا على السرعة، وخطر على بالي في لحظة ضعف أن أرمي بنفسي، ولكن من شدة رعبي تصورت أن الأرض بعيدة عني وكأنني على قمة «امبايرستيت»، وزاد رعبي أكثر عندما تخيلت لو أنني سقطت كيف أن عظامي سوف «تتدشدش» لا محالة، ونحن في منطقة مقطوعة وليس هناك سيارة إسعاف، ولا طبيب، والمستشفى في مدينة بريدة تبعد عنا أكثر من 150 كيلومترا، وفعلا أصبحت في ورطة عظيمة لا أحسد عليها، وأخذت أكيل الشتائم تلو الشتائم لنفسي؛ كيف أنني طاوعت والدي، ولولا أنه ليس هناك مجال للبكاء لبكيت فعلا بحرقة، وتذكرت تلك الجملة الحكيمة القائلة: «ألف مرة جبان ولا مرة واحدة الله يرحمه». وكرهت الخيل وسلالاتها، وتصورت أنها حيوانات شريرة، وهي التي ساهمت في قتل الناس، وهي التي شجعتهم على السلب والنهب وزينت لهم الحروب، وتذكرت شقتي الوادعة في جدة، ومقعدي الوثير الآمن فيها، تذكرت كل الأصحاب وكل الأغاني وكل السهرات البريئة، التي أصبحت عندي وأنا على ظهر ذلك الوحش أبعد من جنان الخلد عني.

ويبدو أن أخي جزاه الله خيرا قد فطن إلى ما أنا فيه من أزمة، لهذا لحق بي على السيارة وبشيء من المسايسة منه استطاع أن يوقف الجواد، وما أن توقف حتى نزلت من على ظهره سريعا، أو بمعنى أكثر دقة سقطت من عليه سريعا، وأول ما قلته: أشهد أن لا إله إلا الله، والغريب أنني كنت أعتقد أن ركوبي استغرق أكثر من ساعة، غير أنني تعجبت وانكسفت عندما قال لي أخي: إن ركوبك لم يستغرق أكثر من خمس دقائق.

وعندما قابلت بعدها والدي رحمه الله قال لي: ألم تقرأ قول الرسول الكريم: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة؟!

قلت له: نعم، الآن عرفت.

[email protected]