رؤية الفيل في غرفة غزة

TT

اضطررت لزيارة موضوع مقالي الماضي، وهو أيضا ما تناوله الزملاء، طارق الحميد، وعبد الرحمن الراشد، ومأمون فندي، وعلي سالم: مشكلة سكان غزة.

المقالات أثارت تعليقات في فضائيات وإذاعات تمولها إيران وحزب الله والقوى «الثورجية» وفي ما يمكن تسميته الرأي العام الإلكتروني للناطقين بالعربية، بردود، ليس على موقع «الشرق الأوسط» فحسب، بل أخرى بعضها مسؤول كـ«إيلاف»، والآخر لهواة لا يلتزمون التقاليد الصحافية العريقة.

الخطوط العريضة التي نتفق عليها (نحن الكتاب الخمسة) أن المشكلة من صنع حماس، لكن التفرعات ابتعدت عن جوهر القضية بفضل تحالف غير مقصود خلقه تلاقي المصالح والتمنيات الآيديولوجية، بين القومجيين العرب، والتكفيريين الإسلامويين، واليسار الأوروبي.

حول التحالف الظرفي الانتباه عن مسؤولية حماس عن الأزمة إلى اتهامات (بلا أدلة مادية) لمصر لدرجة اضطرار الدكتور فندي للتذكير ببديهية «الفيل في الغرفة» أي الحقيقة التي يتعامون عن رؤيتها كاملة: حسني مبارك هو رئيس لمصر وليس رئيسا لغزة، وبالتالي مسؤول أمام ناخبيه المصريين؛ وليحاسب الغزاويون رئيسهم.

اختلط الأمر على أصحاب التعليقات التي تنتقض طروحات الكتاب الخمسة.

فلو خطى المعلقون للوراء للنظر للغرفة شاملة لتعرفوا على الفيل، لكن من فضل كسل البقاء في مكانه ينظر لخرطوم الفيل فقط فيظنه أنبوب تهوية، أو ساقه الضخمة فيظنها جذع شجرة.

تشبث البعض بعبارة واحدة (متجاهلا المقال ككل) ليكفر كاتب ذبح البقرة المقدسة أمام أعينهم.

الأسلوب العلمي لتناول مشكلة (كنظام التعليم الأوروبي كما كان أيام وزارة معارف أحمد لطفي السيد، وطه حسين)، هو فحصها من منظور محايد وليس بفكرة مسبقة محاولين إثباتها أو نفيها وتقبل فقط ما يثبت العلم صحته.

طرح الكتاب الخمسة لحقائق وأرقام ألقى بالشكوك حول حركة آمن العقل الباطن للكثيرين بقدسيتها. فالعقل الواعي الجماعي شكلته أنظمة تعليم عربية قدست التلقين وحفظ النصوص القديمة، بينما حرمت البحث العلمي والتفكير المنطقي والبحث عن المعلومات خشية توصل الفرد بشكل مستقل لما يغضب التكفيريين وأذرع إرهابهم طويلة.

والنتيجة تقديس هذا العقل لحركة لا تظهر إلا أقدامها واقفة على قاعدة دينية (رجل الفيل فقط)، وبالتالي ينتهك التشكيك في صحتها المحرمات.

وعندما «رجمت» (تعبير بياناتها الرسمية) إسرائيل ببضعة صواريخ أضاف العقل نفسه عليها قدسية أخرى. فتذكية نيران كراهية إسرائيل بتغذية مؤسسات اجتماعية (المدرسة، والمساجد، والإعلام) في وجدان أجيال شبت على تقبل ما تتلقاه من المؤسسات دون تدريب عقولها على التحليل المنطقي حولت إسرائيل إلى «شيطان» في ثقافة ظاهرية التدين؛ ومن «يرجم» الشيطان لا بد أن يكون ملاكا فوق مرتبة النقد البشري.

وسواء كان الموضوع عن غزة أو عن برنامج ناسا لدراسة المريخ، فإن كتاب الرأي في صحيفة كـ«الشرق الأوسط»، تخاطب النخبة المتميزة والمثقفين، مهمتهم إثارة الجدل والتفكير بين القراء، لا بلوغ أرقام قياسية بطول مدة تصفيق القراء لفكرة المقال لأنها توافق تصورهم لما يجب أن تكون عليه الأمور الدنيوية.

فالمقلق إذن على مستقبل الفكر العربي هو غياب المنهجية في طريقة التعليق على ما طرحته مقالات هؤلاء الكتاب (كبديل عن الجدل بمعناه في علوم المنطق والفلسفة) بالعجز عن رؤية الفيل في الغرفة.

منطقيا، هناك فارق بالغ الوضوح ومحدد مسبقا بين نوعين من مقالات صفحات الرأي والتعليق.

فرأي يطرحه كاتب كعلاج لمشكلة معينة، يحتمل الصواب والخطأ أو التراجع أمام اقتراح أكثر قابلية للتطبيق؛ وهذا يختلف عن مقال يقدم للقراء معلومات وأرقاما وحقائق على الأرض كخلفية لدعم الفكرة أو الرأي، وهنا يقتصر احتمال الصواب والخطأ على تفسيرنا، ككتاب، للمعلومات التي بدورها غير قابلة للتغير لأنها إما حقائق أو وقائع الماضي.

فالإعجاب بسياسي بريطاني يجيد الخطابة التحف بالكوفية الفلسطينية هو محصلة عوامل كالمزاج الشخصي ورومانسية حلم اليقظة الثوري؛ تختلف عن عوامل كالأرقام والأدلة اللازمة لاستصدار حكم بالتصويت لهذا السياسي أو ذاك.

فالقضاء لا يدين أو يبرئ متهما لوسامته أو طيبته أو بلاغة محاميه، بل استنادا لأدلة مادية لا يرقي إليها الشك كالبصمات والصور واختبار الحمض النووي.

فمجموعة مقالات «الشرق الأوسط» المثيرة للجدل لم تبن على مزاج شخصي أو عواطف، وإنما استندت إلى المعلومات المحددة التالية:

- بنود اتفاقية فتح وإغلاق معبر رفح (يمكن مراجعتها في مكتبة الكونغرس).

- الاتفاقية معطلة، فالمعبر مغلق لانسحاب المراقبين الأوروبيين وغياب ممثلي السلطة الوطنية.

- وسبب غيابهم؟

- نقض اتفاقية مكة. وانقلاب حماس ضد أجهزة السلطة الوطنية.

- العالم كان يتعامل مع بيروقراطية السلطة الوطنية (كجهاز ثابت في نظر القانون الدولي) وليس مع حكومة تتغير بالانتخابات (سواء حماس أو منظمة أخرى)؛ وبالتالي خرجت غزة من إطار التعامل الدولي.

- ملف غزة انتقل من الدول وتجمعات كالاتحاد الأوروبي إلى المنظمات الخيرية.

- تصريحات إسرائيل كدولة (بصرف النظر عن لون حكومتها) كانت واضحة في الجهة التي تتعامل معها وهي رئاسة الكيان الفلسطيني (وليس حكومة فتح أو حماس) وفق الاتفاقيات، وأنها ستغلق - أكرر ستغلق - المعابر في حالة خروج غزة عن إطار السلطة الوطنية - التي وقعت الاتفاقيات معها - وأنها سترد عسكريا إذا أطلقت الصواريخ.

- غالبية العاملين الغزاويين متلقي الأجور (خلاف متلقي إعانات الأمم المتحدة الذين ذكرتهم في مقال السبت الماضي) كانوا يعملون يوميا في إسرائيل.

- إغلاق المعابر (للسبب أعلاه) منعهم من كسب الرزق في إسرائيل.

- ارتفع معدل إطلاق الصواريخ من غزة على إسرائيل.

- نفذت إسرائيل تحذيراتها المسبقة بعمل عسكري ضخم، مبالغ فيه وقد لا يتناسب مع حجم اعتداء حماس، لكنه جاء ردا على الصواريخ.

- سأفترض حسن النية وأقبل جهل حماس بأنفاق التهريب، لكنها تعترف بتهريب مختلف أنواع البضائع يوميا.

- لا توجد حكومة في العالم تسمح بانتهاك الحدود أو بالتهريب (تهريب بضعة صناديق من السجائر من فرنسا إلى ميناء دوفر يعرض السائق البريطاني في بلاده للغرامة وأحيانا السجن ومصادرة سيارته لمخالفة اللوائح الجمركية، فما بالك إذا كان المهرب أجنبيا عن البلد والأمر يمس الأمن وليس الرسوم الجمركية؟).

- من حق أي بلد - ومصر ليست استثناء - بناء جدار على حدودها بأي شكل تراه مناسبا.

وأرجو من القراء تجنب الشعارات ومواقف التعاطف مع الأطراف «النبيلة»، والتأمل بحياد: أي مما ذكر بأعلى (بصرف النظر عن الرأي الشخصي من العبارة) ليس معلومات ثابتة وحقائق على الأرض؟

وأنا في انتظار الردود!