عراقيا.. التداخل بين الخيانة والوطنية والتجريم

TT

ما حدث في العراق يختلف اختلافا تاما عن كل ما حدث في أي بلد آخر، حيث تقاطعت المواقف والممارسات والنيات إلى أقصى ما يمكن. ولسوء حظ العراقيين فإن كثيرا من سياسييهم ركبهم الغرور وبقيت التصورات السلبية غالبة على أفكارهم، بسبب الجهل في معرفة معادن الأمم والشعوب، وغياب ثقافة الإقرار بأن سلامة الضمير تشكل مفتاح معالجة الأزمات، الموروث منها والمتجدد.

بعد سبع سنوات دموية منذ التغيير، نرى تلاطما وتصادما في المواقف يرتقي إلى مستوى التخوين والتجريم كمحصلة من محصلات استمرار الفجوة بين الكيانات السياسية وتصادم المصالح الإقليمية على الساحة العراقية. ولا شك في ارتكاب النظام السابق أخطاء فادحة يرتقي بعضها إلى مستوى الجرائم، ولا شك أيضا أن الممارسات في النظام الجديد ينطبق عليها الوصف، ولو فُتحت السجلات بحيادية لظهرت حقائق مذهلة متقابلة.

من الحالات الصحية، وأؤكد رأيي بأنها صحية، أن يتخذ بعض السياسيين النشطين الحاليين من الثقافة البعثية، انتماء أو عواطف، موقفا متصديا ديمقراطيا للسياسات المنحرفة عن الخط الديمقراطي المفترض، ليقولوا لمروّجي ثقافة الانتقام قفوا عند حدكم، فقد ظلمتم وغدرتم ونكثتم وأسرفتم في القتل والاعتقالات وأحدثتم ما أحدثتم في النسيج الوطني. لكن التصدي لا ينبغي له القفز على مشاعر الناس ولا التعميم المطلق، وإلا ترسّخ نهج الانتقام والإقصاء والتهميش.

في كل الشرائع، الذين يدافعون عن بلدهم خلال الحروب المفروضة لأي سبب، يحملون الصفة الوطنية بلا جدال. أما أن تُكيَّف القوانين وفقا لأهواء هذا الحاكم أو ذاك، فهو أمر مخلّ بالعدالة، وكل ما يخلّ بالعدالة لا يكتسب الشرعية. خصوصا ما يتعلق بالتدخل السافر في القضاء سابقا و(حاليا). وبسبب هذا قلنا كان على قوات التحالف جعل قوى الأمن والقضاء جهازين منفصلين عن السلطات التنفيذية، إلى أن تنجلي قلوب بعض السياسيين من الأحقاد والضغائن والتخلف.

هل يعقل أن يتهم شخص بالإرهاب والتكفير والبعثية لمجرد تعاطفه مع بعثيين مظلومين أو مع عوائل آلاف الشباب ممن اختطفوا من قبل أجهزة الدولة ولم يعرف مصيرهم منذ عدة سنوات؟ أو لأنه يختلف فكريا وعمليا مع نهج النظام القائم؟ وهل المطلوب ممن يسعون إلى تصحيح الأخطاء حتى بمعاكسة التيار، التحول إلى قطعان من الخراف أو عملاء مرتشين كناقصي الجاه؟ لكن لا بد من الوصول إلى قناعة راسخة بأن الذين قاتلوا مع قوات الباسداران وفيلق القدس لهم رؤيتهم ومصالحهم، وهم من وجهة نظرهم مناضلون ومجاهدون، ومن غير المنطق والمصلحة الإيغال في توصيفات جارحة أصبحت معروفة، على أن تكون مراعاة المشاعر متبادلة.

معظم السياسيين الأكراد، وليس جميعهم، يؤمنون بعدم الرجعة عن حلم دولة كردستان، ولهم الحق ضمن اعتبارات وحدود معينة. لذلك ينبغي الفصل في نظرة واقعية بينهم وبين السياسيين من عرب العراق، وحتى بين مسؤوليهم أنفسهم. فالمسألة الكردية ليست وليدة اليوم، ولم تبنَ على مواقف طارئة. شريطة أن لا يحوّلوا آمالهم إلى آلام للآخرين. وأيضا من الضروري عدم استمرار اجترار الماضي من قبل بعض مسؤوليهم، لأن الاجترار لن يكون أحادي الجانب.

في مفهوم التصادم العنفواني، (كل) السياسيين في العراق خونة مجرمون، وكلهم وطنيون ومناضلون من وجهة نظر فرقهم. وفي الحالتين لا بد من طي صفحة الماضي وتوقف الطرفين عن اجترار الماضي.

لسنتين من عنف لا مثيل له، لم يسكن الرئيس طالباني، وأنا، في المنطقة الخضراء، ولم تطلق علينا قذيفة واحدة ولا طلقة واحدة رغم وقوفنا القوي ضد الإرهاب والعنف. وليس معقولا أن يكون ذلك بسبب إجراءات الأمن وحدها. وإذا كانت الأطراف المتصارعة، ومنهم المقاومة، قد احترمت وجودنا وموقفنا، فلا يعني وجود خطوط مائلة.

على المستوى التنفيذي، والحديث عن بغداد، الرئيس طالباني لم يأمر باعتقال شخص واحد ولم يغلق باب بيته أمام أحد، بل على العكس انفتح على الجميع وقدم ما يستطيع من مساعدات. فهل يعقل أن يتساوى مع غيره؟ وفي مقال سابق أثنيت على نائب الرئيس عادل عبد المهدي وقالوا لأن خلفيته بعثية، فيما أثنيت على ممارسة وسلوك تمنيت استمرارهما. وهذا يقود إلى ضرورة تجنب التعميم.

الحقيقة التي لا يقبل بقولها سياسيو الحكم أنهم كانوا يطالبون بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع، فيما يتبعون اليوم كل مخالف للمنطق والعدل للتحكم بالنتائج، بمحاولة الحد من مشاركة الآخرين، وفق منهج مدروس ومنظم ومكشوف في سلوك المالكي وفريقه. وإذا كانت الصناديق الحرة تعبر عن رأي الناس، حتى لو كانوا بعثيي الهوى والهوية، فلماذا تمنع حرية الرأي ويُرفض حق الاختيار؟ ولماذا الخوف من شعبية من يصفوهم بالفلول؟