عولمة الرأي العام

TT

مستقبل العالم الذي كان يتشكل فقط عبر السياسات المختلفة أو المتصارعة أو المتجانسة التي تتبناها النخب الحاكمة في دول العالم اليوم بناء على مصالحها الشخصية أو المحلية الضيقة لم يعد كذلك، فتلك السياسات المحلية أو الإقليمية لم تعد العامل الوحيد أو المحدد، فمواطنو أغلب دول العالم أصبحوا اليوم جزءا من المعادلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية العالمية.

العولمة اليوم لم تعد مجرد شعار براق أو ظاهرة محدودة فقط كما يتصور البعض، بل أصبحت اليوم واقعا عمليا وحقيقة ثابتة. فالتكنولوجيا المتسارعة التطور وسبل الاتصالات التي تتسع وتتشعب وتتشابك يوما بعد يوم تعمل على تقريب وتفعيل وربط سكان هذا الكوكب الأرضي ببعضهم بعضا، ومن ثم تربط بين آمالهم ومصائرهم ومكابداتهم وأحلامهم ومخاوفهم في الوقت نفسه.

لقد تبلورت خلال العقد الماضي بعض الرؤى العالمية المشتركة بين مواطني العالم، وأصبحت تشكل نوعا من الرأي العام العالمي تجاه عدد من القضايا ذات الأهمية والحساسية المشتركة.

عدد من مؤسسات قياس الرأي العام العالمي قام أخيرا باستطلاع وجهات نظر المواطنين في عدد من دول العالم المتنوعة جغرافيا وإثنيا وثقافيا. وكانت منظومة المواضيع العالمية المطروحة تشمل: النظام العالمي، والأمم المتحدة، والتجارة العالمية، وانتشار الأسلحة النووية، والتغير المناخي وحقوق الإنسان.

عرض سريع لأهم نتائج هذه الاستطلاعات يشير إلى تبلور أجندة عالمية تجاه عدد من القضايا العالمية المحورية والملحة.

النظام العالمي: تميل الشعوب حول العالم إلى التوجه دوليا. فيعتقدون أن التحديات العالمية ببساطة معقدة جدا ومن المرعب التعامل معها بالوسائل الأحادية الجانب أو حتى الإقليمية. في استفتاء كل دولة، يؤيد معظم الناس النظام العالمي الذي يعتمد على دور القانون، والمعاهدات الدولية والمؤسسات المتعددة الأطراف القوية. ويؤمنون بأن حكومتهم ملزمة بالالتزام بالقانون الدولي، حتى وإن تعارض ذلك مع مصالحها المحلية الملموسة. إن الغالبية العظمى بما في ذلك بين الأميركيين، يرفضون الدور المهيمن للولايات المتحدة، ولكنهم يريدون أن تشارك الولايات المتحدة في الجهود المتعددة الأطراف لمعالجة المواضيع الدولية.

الأمم المتحدة: عالميا، تؤمن الشعوب المحلية بأن الأمم المتحدة تلعب دورا دوليا إيجابيا، على الرغم من أنها في الغالب قد خيبت الآمال بأدائها الفعلي المحدود النجاح. كما تدعم عمليات وجهود إصلاح الأمم المتحدة. الأغلبية في معظم الدول، بما في ذلك في الولايات المتحدة، ينظرون إلى مجلس الأمن في الأمم المتحدة على أنها المؤسسة الرئيسية للبحث في موضوع شرعية استخدام القوة المسلحة. هنالك دعم شعبي قوي لإضافة أعضاء دائمين جدد في مجلس الأمن، حتى بين شعوب تحتفظ بعضوية دائمة في المجلس، لإعطاء المجلس السلطة لإبطال أي حق فيتو من قبل العضو الدائم.

حقوق الإنسان: تؤمن الشعوب في أنحاء العالم بأن مجلس الأمن ليس له فقط الحق وإنما مسؤول أيضا عن منع أو وضع حد للإساءة لحقوق الإنسان مثل الإبادة الجماعية. تظهر الاستفتاءات أن الأغلبية أو الأكثرية في كل الأمم يريدون من الأمم المتحدة أن تروج بشكل فعال لحقوق الإنسان، ويرفضون الجدل بأن هذا الأمر سيكون تدخلا غير مناسب في الشؤون المحلية للدول.

انتشار الأسلحة النووية: الأغلبية العظمى من الشعوب حول العالم، بما في ذلك الدول التي تمتلك الأسلحة النووية، تفضل اتفاقية دولية للتخلص من كل الأسلحة النووية، بوجود شروط مراقبة صارمة. كما تفضل الشعوب حول العالم أيضا نظاما جديدا للأمم المتحدة يوقف دولا جديدة عن تصنيع وقود نووي، وبدلا من ذلك تزويدها بالوقود الذي تحتاجه من أجل إنتاج الطاقة. تؤيد استفتاءات الشعوب فكرة الدخول في تطبيق اتفاقية حظر تجارب شاملة، كما يفضل الكثيرون أيضا أن يملك مجلس الأمن الحق في تطبيق القوة العسكرية لمنع أي دولة من حيازة الأسلحة النووية.

التجارة العالمية: تظهر الاستفتاءات الدولية دعما قويا للعولمة، يمتزج مع اللهفة لأن تكون خطواتها سريعة جدا. ينظر غالبية الشعوب في معظم الدول إلى التجارة العالمية على أنها أمر إيجابي لمجتمعاتهم، ودعم منظمة التجارة العالمية، وفي الوقت نفسه، فإن الأغلبية الساحقة دوليا تدعم معايير العمل والمعايير البيئية في اتفاقيات التجارة.

التغير المناخي: في كل استفتاء دولي، تقول الغالبية في كل الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة، إن التغير المناخي يشكل تهديدا، وإنه من الضروري اتخاذ إجراء ما، وإن مثل هذا التعديل سوف يستلزم تغييرات في نمط الحياة في دولتهم. تؤمن الأغلبية في الدول النامية والمتقدمة بأن الدول النامية تتحمل مسؤولية الحد من الانبعاثات في محاولة للتعامل مع التغير المناخي. هناك إجماع بين معظم هذه الدول، النامية والمتقدمة، على أنه يتعين على الدول المتقدمة أن تقدم العون لمساعدة الدول النامية على الحد من انبعاث الغازات من الدفيئة. وفي الوقت الذي ستستمر فيه الدولة القطرية في لعب دور اللبنة الأساسية التي يقوم عليها البناء العالمي، فإن التكتلات الجهوية أو الإقليمية والتحولات المتسارعة نحو العولمة ستستمر في تشكيل ملامح عالم المستقبل.

ونحن على مشارف عقد جديد، تعتبر القضايا التي أجمع عليها الرأي العام العالمي مشروع أجندة عملية مشجعة ستنعكس آثارها الإيجابية محليا وعالميا على المواطن والكوكب الأرضي الذي في حاجة ملحة للحفاظ عليه.

* كاتب أميركي من أصل ليبي