الزيف المثير للشفقة

TT

يفقدنا الكره حسن الرؤية، ويفقدنا الغضب متعة الحياة. ويمضي من نكرهه مسرورا، غير عابئ بنواقصه، فيما ننكد على أنفسنا كل شيء. كتب جون راسكين، في القرن التاسع عشر أن «لكل المشاعر العنيفة تأثيرا واحدا. فهي تترك فينا أحكاما خاطئة ومزيفة. وهذا ما أسميه الزيف المثير للشفقة».

يحضرني في ذلك ثلاثة شعراء، ثالثهم لم يكن على شهرة كبيرة؛ رواد طربيه. أقصد أيضا أدونيس وعبد الوهاب البياتي. لم يكن الشاعر العراقي، رغم مكانته، يطيق أحدا. كل ثالث بيت شعر، كان فيه عور وساقطون. ولم يكن يعجبه أحد من الشعراء. عور. ولا من الكتاب. عور. ولا طبعا من السياسيين.

لم أسأل أدونيس عن شاعر، قديم أو محدث، إلا وبحث له عن حسنة ما، سألته عن بعض غلاة المحافظين، متوقعا التأفف، فقال إنهم لم يعطوا حقوقهم. لم أر أدونيس في محاضرة، أو مجلس، إلا راضيا أو باسما. وربما لم يتعرض أحد إلى النقد بقدر ما تعرض، لكنه لم يستخدم مرة كلمة نابية في حق أحد، مهما كانت درجة الاختلاف عميقة.

كان رواد طربيه من الشعراء التقليديين، بقناعة وحماس. حتى عندما ترجم «مختار الشعر الفرنسي»، وهو عمل ضخم، ظل للأسف بلا أثر، لأنني لا أعتقد إطلاقا أنه من الممكن ترجمة رامبو وفاليري وحتى لامارتين الكلاسيكي، بإيقاع العجز والرجز. وقد تعرض رواد لنقد كثير وظل باسما هادئا، تملأ نفسه سكينة وعظمة. وقد عمل صحافيا في إذاعة مونت كارلو لسنوات طويلة، لكنه لم ينضم مرة إلى دائرة النم والشتم والقذف. لا بين الصحافيين، ولا بين الشعراء، ولا بين النقدة.

كنت أغبط رواد على أشياء كثيرة: علمه اللغوي الوسيع، وكنز القناعة التي فيه، ورؤيته إلى كل شيء بعين مجردة، كريمة ومنصفة. وحيث لم يكن قادرا على التزوير بكلمة جيدة، كان يتمنع عن أي كلام معاكس. وفي أواخر أيامه منح الدكتوراه الفخرية في جامعة الكسليك. وكان المرض قد تمكن منه. لكنه وقف ومشى على المسرح باسما هانئا، لا شيء يتمكن من سكينته، ومن شغفه وعشقه الوحيد: العربية.