حيطان وجدران وأسوار و«بتاخون»!

TT

«خيط حرير على حيط خليل».. من عبارات التلاعب اللفظي التعجيزية، لا يزال الناس يتندرون بصعوبة تكرارها.

لا يمكن أن تكون كلمتا الجدار والحائط متماثلتين في معناهما تماما، ولا يمكن أن يكون الحائط بنفس صلابة الجدار. وقد كانت كلمة السور أكثر شيوعا في الماضي من كلمتي الجدار والحائط، وكانت ذات مدلولات أمنية أعمق في معناها من أي منهما، فكان سور عكا، وأسوار بغداد، وسور الصين، وهكذا. لكن العكس يبدو هو الصحيح اليوم، فأنت تبني سورا حول حديقة بيتك، بمعنى بناء سياج يحيط به، قد يكون من الخشب، وقد تتخلله فتحات ترى من خلالها، بل وربما ينفذ من بينها الصغار، وقد يكون السور من شجر السرو - لاحظ التشابه بين الكلمتين. ولكن الواحد يبني جدارا حول بيته، وحائطا مرتفعا يحمي بيته من اللصوص.

لقد أصبحت كلمة الحائط ترتبط بالطول البعيد المدى، ومنها اشتقت كلمة المحيط الهائل البعيد، مع أن العظمة في هذه الكلمات ارتبطت بالسور، فكان سور الصين العظيم واحدا من عجائب الدنيا المتعددة.

ومن مشتقات كلمة «حاط»، جاءت الحيطة، بمعنى الحذر، ومنها جاء الاحتياط، وارتبطت أحيانا بكلمة المعرفة والعلم، فيقال: «أحيطك علما بأن حائطك هش، لن يصمد أمام تطلعات الناس للسلام والحرية».

كان الناس يحيطون من يصيبه الجدري بمحيط يمنعه من الاتصال بالآخرين، خوفا من انتقال العدوى. وتندرج كلمتا الجدري والجدار تحت مادة «جدر» قاموسيا. فالجدري والجدار من أصل واحد. «أحيطكم علما أن الجدري تلاشى في عالم اليوم بسبب العلم»، بقي الجدار وانقرض الجدري.

جداران جديران بالمتابعة الإخبارية. واحد تبنيه الحكومة المصرية على امتداد الحدود بينها وبين قطاع غزة، والآخر أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن بنائه على امتداد حدودها مع مصر، البالغ طولها 155 كيلومترا. الجدار المصري مؤقت، أعتقد أن مهمته ستنتهي بانتهاء حالة الفوضى التي تعيشها الساحة الفلسطينية. بينما بررت السلطات الإسرائيلية بناء الجدار مع مصر بأنه لوقف التهريب والتسلل إلى داخل إسرائيل عبر سيناء، وأن هذا الجدار ليس لوقف «الإرهابيين» فحسب، ولكنه لمنع تسلل العمالة الإفريقية والباحثين عن فرص العيش من أفريقيا إلى إسرائيل. تهكم أحدهم: «كالمستجير من الرمضاء بالنار».

الدول التي تعترف بإسرائيل - وبينها مصر- رأت أن من حق إسرائيل بناء الجدار، لأنها ستبنيه داخل أراضي إسرائيل نفسها. إسرائيل قالت إن الجدار سيكلفها مئات الملايين، وإنه سيكون مجهزا بأحدث التقنيات الكاشفة التي ستمنع من تسول له نفسه التسلل إليها، أي إن الجدار سيكون مجدارا - أي فزّاعة تطرد المتسللين.

الحائط الإسرائيلي الجديد هو الثاني الذي تنوي بناءه بحجة «بتاخون» - الأمن، وهي الكلمة العبرية التي تلقى لها صدى في نفوس المجتمع الإسرائيلي الذي زرع قادته في نفسه الخوف من كل المحيط. جدار الضفة الغربية يتلوى، ويلتف، ويخترق القرى والمزارع والبساتين والضيع الفلسطينية، ليحول الضفة الغربية لما يشبه «الجبنة السويسرية» التي تملؤها الخروق والبوابات التي تحيل التنقل اليومي للناس إلى جحيم.

ترى! حين يبني قادة إسرائيل الجدار تلو الجدار، هل يبقون «القوييم» (الأغيار) خارج الحائط؟ أم أنهم سجنوا أنفسهم داخل حيطان وجدران بحجة الأمن؟ هل ضريبة البتاخون (الأمن) حصار ذاتي، وإقامة جبرية داخل إسرائيل؟ وهل طرح قادة إسرائيل رؤية لنهاية هذا الحصار الذاتي؟ أم أن عقلية «الجيتو» لا تزال معششة في عقولهم، وأصبحت فخا عضويا مزمنا لا فكاك منه؟ هل يعني بناء هذه الجدران نهاية التوسع الإسرائيلي في الأراضي العربية؟

حاول أن تقول: «حيطان وجدران وأسوار لبتاخون إسرائيل»! صعبة، أليس كذلك؟