السلوك الانتخابي وبرلمان الأعمال غير المنجزة

TT

في الوقت الذي تقترب فيه دورة البرلمان الحالي من نهايتها، ليسدل الستار معها على حصيلة عمل أول برلمان عراقي منتخب بصلاحيات دستورية واسعة منذ نهاية العهد الملكي، لا تبدو هناك صفة أصدق لهذا البرلمان من أنه برلمان عبور، وامتداد لصراع أكبر لم يستطع أن يتجاوزه، بل ظل رهينة له. وبالتالي، فقد كان برلمانا فعل الكثير إلا الأمور الأكثر خطورة وجذرية؛ حيث أنجز قوانين عديدة، لكن تلك القوانين الأكثر مصيرية ظلت غائبة عنه. وقد انطلق برلمانا يتوقع منه أن ينجز خطوات رئيسية على صعيد تمتين البناء السياسي الجديد، وحل العديد من الإشكاليات التي تمثل عناصر رئيسية في استقرارا البلد وتحديد اتجاهاته المستقبلية، ومن بينها التعديلات الدستورية، وقانون النفط والغاز، والمادة 140 الخاصة بما يعرف بالمناطق المتنازع عليها، والعلاقة بين المركز والأطراف، وبنية النظام «الفيدرالي»، وانتهى البرلمان إلى تجاهل أي تعامل جدي مع أي من هذه المسائل التي ظلت أعمالا غير منجزة ترحل إلى مرحلة أخرى ربما تنتج فيها الانتخابات تشكيلة سياسية جاهزة لمثل هذه التحديات.

بالطبع لا يمكن لوم البرلمان لوحده على ذلك، فطبيعة الطبقة السياسية التي أدارت البلاد، والنمط التوافقي الذي حكمها، والفيتوات المتبادلة، والشكوك المتجذرة، كلها عوامل لم تسهل أي حلول جذرية، لأن مثل هذه الحلول تفترض تنازلات جذرية، وإرادات واثقة، واستقرارا يمنح الجميع نوعا من الاطمئنان والثقة بالنفس قبل الآخرين. ولتجاوز حالة العجز عن التعاطي مع كبار القضايا، شغل البرلمان نفسه، كما شغل من قبل الآخرين، بقضايا أقل أهمية، وبدلا من العمل على تجاوز المعضلات القائمة، صار الشغل الشاغل هو الحفاظ على التوازنات، ليس بهدف الحفاظ على استقرار هش، بقدر ما كان الهدف هو الحفاظ على الأرباح الحزبية والذاتية لكل فريق سياسي.

ولم تكن هذه الحالة واضحة أكثر مما هي اليوم، ففي الوقت الذي يفترض بالبرلمان، كما هو شأن أي برلمان في العالم، أن يعطي الأولوية للميزانية، بوصفها شريان البلد، ووقود أجهزة الدولة ومؤسساتها، يتم تأجيل البت فيها في مرحلة محتدمة بالجداول الزمنية الكبيرة. بل ويغدو من الصعب على البرلمان تحقيق النصاب، وإن تحقق فإنه نصاب النصف ساعة، وهي الذروة في الحضور، إذ سرعان ما يتسرب بعدها النواب، ويمتنع الكثير من الأعضاء الذين لم يتم ترشيحهم للانتخابات المقبلة عن الحضور، وكأن واجبهم قد انقضى، والامتيازات الكبيرة التي حظوا بها طوال السنوات الماضية، والتي سيظلون يحظون بجزء كبير منها بعد التقاعد، ليست شافعا كافيا كي يستقطعوا بعض الوقت من انشغالهم بذواتهم المطعونة في نرجسيتها، والنظر بقانون يعد رئيسيا لمصلحة المواطن. أما البعض الذي لا يزال لديه دور يلعبه في المسرح السياسي (وهو في العراق مسرح يمزج الهزلية المفرطة بالدراما المفرطة)، فإنه يريد مساومة الميزانية بقانون آخر، قانون لا تعنيه مصلحة المواطن والبلد في شيء، ولا يحتوي على أي طارئ يوجبه سوى المصلحة الذاتية لواضعيه؛ وأقصد به ما صار يعرف بقانون السلوك الانتخابي. إن مشروع هذا القانون يعكس بشكل واضح جدا طبيعة سلوك الطبقة السياسية الراهنة، وتغليبها للحزبي والذاتي على الوطني والعام، فحتى الغايات الأخلاقية المعلنة للقانون، مثل إجراء انتخابات نزيهة، وضمان الشفافية والحياد، ليست بحاجة لأي قانون، فمفوضية الانتخابات مسؤولة عن إصدار التعليمات والنظم الخاصة بنزاهة الانتخابات، وهي مفوضية لم يشكلها البرلمان الياباني، بل البرلمان العراقي بتشكيلته السياسية الحالية، وتوافق أحزابه الحالية، وبالتالي فإن غاية القانون «الأخلاقية» تخفي أغراضا مصلحية وذاتية هاجسها الصراع الانتخابي، لا عدالة الانتخابات. إن خطورة هذا القانون تكمن في سعيه لإجراء تعديل في النظام السياسي يطال الدستور، وسلامة هذا النظام، من دون تسمية ذلك صراحة، وهذا التعديل لا يتعلق بهدف طمأنة هواجس شعبية، أو تفعيل أداء الدولة، بل لتكريس شكل النظام السياسي كشركة مساهمة للأحزاب السياسية، واستغلال هذا الوضع لضمان أن تفضي الانتخابات إلى حفظ أسهم كل واحد من هؤلاء المساهمين. والحجة التي يتم اللجوء إليها لتبرير القانون هي ضمان عدم استخدام موارد الدولة لغايات انتخابية، لكن أحدا لم يستخدم هذه الحجة في الانتخابات الماضية، عندما كان البعض ممن يؤيده اليوم مطمئنا أن لديه سيطرة كافية داخل أجهزة الدولة، أو في انتخابات مجالس المحافظات، عندما كان الخاسرون هم الذين يسيطرون على تلك المجالس وأجهزتها التنفيذية، وبالتالي كانت الموارد بيدهم. ثم إن موارد الدولة هي بيد حكومة تتألف من نفس الأحزاب، وإن خزانة الدولة تحديدا هي بيد وزير ينتمي إلى أحد الأحزاب المؤيدة للقانون، كما أن من بين مؤيدي القانون رؤساء وزراء سابقين، أو آخرين يطمحون إلى أن يكونوا رؤساء وزراء قادمين، والسؤال الذي ينبغي أن يطرحوه على أنفسهم قبل تأييده هو: ما الذي سيكون موقفهم عليه إن كانوا هم في المنصب اليوم؟

ولكن مع حقيقة أن مشروع هذا القانون يصعب أن يمر في برلمان يحتضر تحت وقع الغيابات، وأن القضاء سيرفض تمريره لمخالفته الواضحة للدستور، فإن خطورته الأخرى تتمثل في أنه يختم تاريخ البرلمان بجدل حول قضية ثانوية أخرى لا علاقة لها بمعضلات بلد كالعراق.. إنها خاتمة تلخص بطرافة تاريخ هذا البرلمان.