إيران: من ثورة إلى ثورة

TT

خطأ نظن بأن الثورة الإيرانية عام 1979 كانت ثورة إسلامية، بمعنى أن دوافعها كانت دينية بحتة أو أن رجال الدين وحوزة قم هم من كان يقف وراءها، فقد كانت في الحقيقة ثورة شعبية عامة، شاركت فيها مختلف التيارات السياسية الإيرانية، الليبرالية واليسارية والوطنية، بالإضافة إلى الملالي، ومختلف أطياف المجتمع الإيراني وطبقاته، من ساكني أكواخ الصفيح، أو حزام الفقر على أطراف المدن الإيرانية الكبرى خاصة طهران، وتجار البازار في قلب العاصمة الإيرانية، ناهيك بالطلاب والمثقفين وعموم الطبقة الإيرانية الوسطى، وكل تلك الأحزاب المناهضة للنظام الشاهنشاهي أو المطالبة بالإصلاح على أقل تقدير، سواء كنا نتحدث عن فدائيي «خلق» ذوي التوجه الإسلامي، أو «مجاهدين خلق» أو الجبهة الوطنية ذات التوجه الليبرالي، أو حزب توده الشيوعي، أو غيرها.

لم يكن هم هذه الفئات مناوأة «الاتجاه التحديثي» في إيران الذي كان الشاه يرفع لواءه وفق قناعاته الخاصة، مع استثناء الحوزة في هذا المجال الذي كانت تعتبره تغريبا، والمتناقض مع تدين الشعب الإيراني، كما أشارت بعض الدراسات حول أسباب الثورة، ولكن كان همها هو المستويات المتردية للحياة في إيران، رغم الدخل المرتفع للدولة الذي كان جله يذهب إنفاقا على السلاح، أو فسادا في أجهزة الدولة. وكمثال على ذلك، فإنه خلال الستينات من القرن الماضي، كان 87% من القرى الإيرانية خالية من مدرسة واحدة. وكان 1% فقط من القرى الإيرانية «يتمتع» بالخدمات الطبية. وكان 80% من السكان أميين لا يعرفون معنى الحرف، كما أن «الثورة البيضاء» التي بدأها الشاه قد فشلت فشلا ذريعا، فبدل أن تحسن من أوضاع الفلاحين مثلا، دمرت الزراعة والمجتمع الريفي حيث إن القطاع الأكبر من الفلاحين تضرر من هذه «الثورة» وتحول في النهاية إلى قاطني أكواخ الصفيح في حزام الفقر حول طهران وغيرها من المدن الكبرى.

وكان الفساد المالي والإداري قد أصبح ظاهرة في إيران، بحيث إن الطبقة الثرية الجديدة كانت محصورة في أسرة الشاه، أخته الأميرة أشرف بهلوي ومؤسساتها المالية مثلا، والمحيطين به من بطانته والمتنفذين في الدولة، ومن يرتبطون بعلاقات مصاهرة مع أسرته. كما أن الإنفاق الباذخ على الجيش والسلاح، وكذلك البذخ في أمور غير ذي أهمية، مثل التاج الذي كان يحتوي على 3380 جوهرة، الذي صنعه الشاه احتفالا بمرور ثلاثين عاما على ارتقائه العرش عام 1971، ومثل الإنفاق على الاحتفالات بمرور 2500 سنة على نشوء الملكية الفارسية عام 1972، وكانت تكلفتها 120 مليون دولار، وكان المدعوون 82 ملكا وأميرا ورئيسا، كل ذلك مثل استفزازا لشعب يرى الأرض تتفجر بالثروات من تحته ومن حوله، وتنفق ببذخ في أمور لا علاقة لها بحياة الإنسان، فيما هو في معظمه قابع دون خط الفقر، مع تآكل حاد للطبقة الوسطى الإيرانية، التي كانت طوال التاريخ الإيراني هي مصدر الثورات ومصدر الاستقرار في الدولة الإيرانية، اعتمادا على موقف الدولة منها.

بالإضافة إلى مثل هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي، رغم ثراء الدولة الإيرانية، فقد كان الوضع السياسي أسوأ بكثير، ففي عام 1975، ألغى الشاه كافة الأحزاب السياسية، بل وكافة مظاهر الحرية السياسية، وجعل المشاركة السياسية تمر عبر قناة واحدة، هي حزب الدولة الأوحد. كما تحول الإعلام إلى مجرد بوق دعاية للدولة، فقمعت حرية الرأي والتعبير، ولم يعد هناك صوت يعلو على صوت الشاه وأجهزته الأمنية، بل لم يعد هناك من صوت إلا صوت الشاه وأجهزته الأمنية، من مخابرات (السافاك) وجيش وقوى أمن وغيرها. بالإضافة إلى كل ذلك، فإن ارتهان الشاه للوصاية الأميركية زاد الطين بلة، كما يقولون، والشعب الإيراني، بتجربته التاريخية المرة مع القوى الخارجية، خاصة مع روسيا وبريطانيا منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى أربعينات القرن العشرين، ومن ثم كانت الولايات المتحدة حساسة جدا بالنسبة لهذه المسألة، ولعل من أحدثها الدور الأميركي في انقلاب الجنرال زاهدي على حكومة محمد مصدق عام 1953.

لكل هذه الأسباب، أخذت بواعث الثورة تمور في جوف المجتمع الإيراني، خاصة إذا علمنا أن الشعب الإيراني ذو تجربة تاريخية عميقة في هذا الشأن، ثم انفجرت هذه الثورة عام 1979، بتضافر كافة القوى السياسية الإيرانية، وكافة فئات المجتمع الإيراني، فقد كان الجميع متفقين على هدف أولي واحد وهو إسقاط الشاه. لم يكن لهذه القوى أن تتحالف دون رمز يكون مقبولا من الجماهير البسيطة، رمز في صورته تتجسد المعارضة بكافة أطيافها. كما أنه لم يكن من الممكن أن تتوحد هذه القوى دون غطاء آيديولوجي معين يجمعها ولو ظاهرا، غطاء آيديولوجي تتوفر فيه البساطة والشعبية ليكون ذا جاذبية لعامة الجماهير، وفي نفس الوقت مناقضا لحداثة ظاهرية دمرت نسيج المجتمع الإيراني، وهي التي كان يقول بها الشاه وفق فهمه، ومناقضا للعنجهية الشاهنشاهية التي تمثلت في تنصيب نفسه ربا ومالكا لإيران. هنا كان الإسلام، أو لنقل الإسلام المسيس تحديدا، هو أنسب غطاء آيديولوجي ممكن للم شمل كافة أطياف المجتمع الإيراني، وذلك من أجل تحقيق الهدف الأولي وهو التخلص من الشاه، وبعد ذلك يكون شأن آخر.

ولكن بعد انتصار الثورة، قام التيار الإسلاموي في الثورة بتصفية حلفائه السابقين، حتى من كان منهم مؤيدا لنظام الجمهورية الإسلامية، وبعد ذلك صفّوا كل من لا يقول بقول الخميني في ولاية الفقيه أو عزلوه فمات وهو حي، أو من لا ينتهج نهجه دون سؤال. ومع مرور الوقت صفَت الدولة الإيرانية للتيار الخميني وتيار ولاية الفقيه التي يرفضها معظم المراجع الكبرى في الفقه الشيعي، وتحولت الثورة بالتدريج إلى نظام يحكم من خلال الأجهزة الأمنية المتنامية، ويقمع الحريات، وينفق على السلاح ومد النفوذ أكثر مما يُنفق على الإنسان، وكأننا والحالة هذه عدنا إلى نظام الشاه من جديد، ولكن بغطاء إسلامي هذه المرة، وبدأت بواعث الثورة تنمو من جديد، في بلد تشكل الثورة جزءا من تاريخه الحديث والمعاصر. ثورة تنتظر شرارة كي تشتعل، وكانت الانتخابات الأخيرة وملابساتها هي تلك الشرارة.

والحقيقة، كما أراها على الأقل، أن ما يجري في إيران اليوم ليس بداية ثورة جديدة بقدر ما هو محاولة لاستعادة القيم والأهداف التي أدت إلى قيام ثورة 1979، التي اختطفت في النهاية من قبل تيار واحد من عدة تيارات ساهمت فيها. الشارع الإيراني اليوم يتحرك ضد النظام بنفس الدوافع التي أخرجت الجماهير إلى الشوارع عام 1979 مطالبة بسقوط الشاه. صحيح أن الأمور لم تصل بعد إلى المطالبة بإسقاط نظام الملالي ودكتاتورية ولاية الفقيه، ولكن إذا استمرت الأمور في التصاعد بين الشارع والنظام، فإن المسألة قد تصل إلى تلك النقطة، فثورة 79 لم تكن في بداياتها الأولى تسعى إلى إسقاط النظام الشاهنشاهي، بل كانت احتجاجات على الأوضاع الاقتصادية والسياسية وتجاهل حقوق الإنسان، ثم تحولت إلى المطالبة بإسقاط النظام الذي كان متعنتا ورافضا للاستماع إلى مثل هذه الاحتجاجات، فكان أن نحر نفسه قبل أن تنحره الثورة.

في شهر يونيو (حزيران) عام 1978، قال الشاهنشاه محمد رضا بهلوي أريا مهر: «لا أحد يستطيع الإطاحة بي، فلدي تأييد 700 ألف جندي، وغالبية الناس، وكل العمال»، وفي 16 يناير (كانون الثاني) عام 1979 فر الشاه من طهران، معتقدا أنه سيعود على ظهر دبابة أميركية، مثلما حدث عام 1953، حين أعادته الـ«سي آي إيه» إلى العرش بعد الانقلاب على مصدق. ولعل هذا هو لسان حال أحمدي نجاد اليوم، فالأجهزة الأمنية في يده، وهو يقمع ذات الجماهير الشابة التي كان هو ذاته واحدا منها عام 79، والمطالبة بذات ما كان يُطالب به تلك الأيام. ولكن حكم الأجهزة وحده لا يكفي للمحافظة على أي نظام، ما لم يكن هذا النظام محققا لآمال الناس في العيش الكريم، والمتمثل في ثالوث الأمن في الحياة والمعاش، والحرية، وحقوق الإنسان.