الفاصلة

TT

يقول الدكتور فهد الحارثي، الذي ترك ديار الصحافة إلى حقول الأبحاث، إنه يقرأ أحد الزملاء، ليس من أجل مفرداته، بل بسبب دقته، في ما يعرف بالتنقيط. وهذا هو المصطلح الذي استخدمه لغويونا الأفاضل. وأفصل عليه، مصطلح التضبيط، أو الضبط، لأن المقصود هنا ليس وضع النقاط على الحروف أو في آخر الفقرات أو في آخر الجمل، وإنما استخدام مجموعة من العلامات والأحرف والأدوات، من أجل ضبط المعاني وتحصين التعبير وتجميل - أو تحلية - مؤدى الكلام. تصور ماذا تضيف علامة الاستفهام على التساؤل، أو ماذا ينقص إذا حذفت. سوف يتبلبل المعنى ويضطرب القصد. وفكر كم تضيف علامة التعجب في موقعها الصحيح، وكيف تتحول أحيانا، على بساطتها، إلى تعبير صامت.

كان سعيد فريحة يعاني، من هاجس جميل اسمه الفاصلة. ولأنه كان يملي «جعبته» دائما، فقد كان يبدأ الإملاء أحيانا بالقول: «فاصلة»! وعندما اعترض أحد المحررين الشبان يومها، بأن الأستاذ لم يقل جملة بعد حتى يضع فاصلة في نهايتها، قال له بغضب: «ماذا يضيرك أن تضع فاصلة؟ هل ستأتي بها من بيت أبيك».

أخفقت في أن أتعلم منه ذلك الحرص الأسطوري على أهمية الكتابة. كان يمزق الورقة عشر مرات أحيانا، بحثا عن كلمة أفضل وفكرة أرق. وكان دائما يبحث عن فاصلة، يستخدمها بمهارة، لكي يفصل بها ما لا يفصل. أي الأفكار المتصلة والإيقاع المتناغم. ومنذ فترة طويلة خرجت الصحافة العربية من عصر الفاصلة الذهبي. ولم نعد نعرف أين تبدأ الجملة وماذا إذا كانت قد انتهت. ولماذا أغفل الكاتب هذه الريشة التي يدوزن بها العوادون آلاتهم قبل أن يبدأوا عزف التقاسيم.

لقد ذهبت الفاصلة وعلامة الاستفهام وعلامة التعجب والشدة، ضحية السرعة في «المدرسة الجديدة». وكان بعض مديري التحرير في الماضي يحذفون علامة تعجب وضعتها بكل عناية، ظنا منهم أن في الأمر خطأ طباعيا. وتكرر ذلك حتى أدركت أنني أعطى درسا يجب حفظه، فاقتلعت من فكري مجموعة من المستكملات، وليس من الكماليات، التي كنت أعتقد أنها لا تقل تعبيرا عن الكلمة نفسها.

يقول الكاتب بيكو باير إن التنقيط يشبه علامات الطرق. والنقطة مثل الضوء الأحمر، أما الفاصلة فهي مثل الضوء الأصفر. فصل لا قطع. ويخيل إليّ أن هذه الأدوات مثل سياج حول كلمات النص، تحميها من سوء الفهم وتساعد على توضيحها، كما توضح حركة صغيرة الفرق بين الفاعل والمفعول به. «التنقيط» الدقيق دليل حرص. من أحب كلماته لا بد أن يحيطها بما يستوجب من أهله وحاصرات ونقاط وفواصل، وربما حتى بعلامات تعجب، إذا كان ذلك مسموحا.