معاني الاعتذار

TT

مرة أخرى يفعلها هذا الرجل الفاضل رجب طيب أردوغان! فيضرب مثلا حيا بأهمية اتخاذ القادة مواقف تتسم بالعزة والكرامة والشجاعة! وما الاحترام الذي يكافئه به شعبه، إلا نتيجة حرصه على كرامة بلده وشعبه؛ فقد أصبحت شهامته التي ظهر بها وهو يغادر منبر «دافوس»، تجسيدا لموقف رجل لا يخشى في الله لومة لائم، كان الموقف دفاعا عن أهل غزة، ولكنه كان دون شك معبرا عن احترام أردوغان لهويته وكرامته الوطنية، وهذا بالضبط ما فهمه العالم من موقف أردوغان، فترك لخلفه إرثا يفخر به.

كانت لغة وتعبيرات وجه وعنفوان حركة أردوغان، لا تحتمل التأويل، فهذا زعيم وطني يحرص على كرامة بلده، حرصه على كرامة عائلته وأولاده، ومن في العالم لا يحترم توحد القائد مع مبادئه، وانصهاره الكامل في قضية أمته، وتمثيل بلاده أصدق وأرفع تمثيل؟

وها هو، منذ أيام، يعود رجب طيب أردوغان مرة أخرى ليلقن كيانا عنصريا - لم تتجرأ حكومة في الغرب حتى على أن تنتقد جرائمه ولو بأتفه العبارات، رغم بشاعة هذه الجرائم ووحشيتها - درسا في تقديم اعتذار كانت قد أصرت سلطات الكيان الصهيوني على أنها لن تقدمه، بعد أن حاولت جهدها أن تتهرب من الاستحقاق الذي فرضه أردوغان، انتصارا لكرامة تركيا، وحدد لهم المهلة الزمنية ببضع ساعات، وإذا لم يقدموا هذا الاعتذار، تنتهي المهلة، ولا يعود اعتذارهم مقبولا.

لقد تمادى مجرمو الكيان في غيهم، ومع ذلك، فإن المسؤولين الغربيين لا يجرؤون سوى على الترديد كالببغاوات عبارة «الالتزام بأمن إسرائيل».

ولم يضطر مجرمو الحرب الإسرائيليون، رغم كل ما ارتكبوه طوال مائة عام من مجازر، وتعذيب، واستيطان، وحصار، والجدار، وما استخدموه من أسلحة محرمة دوليا، إلى تقديم أي اعتذار للعرب، ذلك لأن هذا الاعتذار لم يطلب منهم أساسا، ولم يعطوا مهلة محددة لقبول الاعتذار، وإلا فإنه سيكون مرفوضا!

نموذج أردوغان التركي، المتسم بالكبرياء والعزة، يستند إلى قوة الدعم الشعبية، ويتميز بالثبات على المبادئ، وليس الاتكاء على الدعم الأجنبي والأجهزة القمعية، ولذلك رفضت تركيا أردوغان، مساعدة حليفها القديم في غزوه للعراق، ولذلك جاهرت بدعمها لغزة، وليس المشاركة في الحصار مع حليفها السابق.

دروس للنظام الرسمي العربي على أكثر من صعيد:

أولا: أن تركيا التي أقامت علاقات واسعة مع إسرائيل تجاهر بدعم أشقائها العرب، فعلا وليس قولا!

ثانيا: أن العلاقة المتميزة التي أقامتها تركيا في مرحلة مع إسرائيل لم تمنعها من إدانة جرائمها علنا، بما في ذلك الحرب والحصار والاحتلال!

ثالثا: كل المبادرات العربية من إظهار حسن النوايا، وإجراءات بناء الثقة، لا تجدي نفعا مع عدو غاشم متجبر وعنصري، وأن اللغة الوحيدة التي يفهمها، هي لغة القوة التي تحشره في الزاوية، وترغمه على الاعتذار عن غطرسة طغاته، ففي الوقت الذي كانت فيه الدعاية الصهيونية توهم الملأ أن الجيش التركي بحاجة للصناعات العسكرية الإسرائيلية، وأن إسرائيل تسدي خدمات جليلة لتركيا بعلاقاتها معها، ها هم أركان العدو الصهيوني يعترفون بأنهم بحاجة إلى تركيا، وأن تركيا ليست بحاجة لهم، ولذلك اضطروا لتقديم الاعتذار عن تصرف عنصري أرعن، هو جزء لا يتجزأ من تصرفاتهم تاريخيا مع العرب، بحيث إنهم ظنوا أن هذا التصرف أمر عادي، وأنه ليس بمقدور أحد إلا أن يقبل بما يصدر عنهم مكرها، إلى أن اكتشفوا رجلا ذا موقف وكرامة وجبين عال، اضطرهم إلى ابتلاع لسانهم، والاعتذار عن تصرفاتهم القبيحة.

رابعا: أن التمسك بالكرامة والعنفوان، هو الأسلوب الوحيد المجدي الذي يفهمه هذا العدو، وأن كل محاولات استرضائه، لن تجدي نفعا، ولن تعيد الحقوق إلى أصحابها الشرعيين، وإن التبرع بإخماد المقاومة العربية، لن يزيد هذا العدو إلا صلفا وغرورا وتجبرا.

خامسا: معاناة الشعب الفلسطيني من القتل اليومي، والحصار، والحرمان من الحرية، سببها جميعا، ليس الاحتلال الإسرائيلي فقط، وإنما ضعف العرب وعجزهم عن تنسيق مواقفهم وتوحيد رؤاهم، والوقوف صفا واحدا ضد كل جريمة ترتكب بحق أي عربي في أي قطر عربي. أي حين يكون الدم العربي عزيزا على القادة العرب، لا يستطيع مجرمو الكيان وغيرهم من الأعداء، الذين يتخذهم البعض، وهم واهمون، أصدقاء لهم، الاستهانة بهذه الدماء، أو تجاهلها. ومن هنا فإن الخاسر الأكبر من الواقع العربي، هو المواطن العربي، وهو بالطبع المسؤول عن رصد هذا الواقع، والتعامل معه، والعمل على تغييره بما يحفظ كرامته، وينال حريته، ويحقق طموحاته المشروعة. والدرس الواضح من أنموذج أردوغان التركي، هو أن العمل المجدي في خدمة القضية الفلسطينية لم يعد حكرا على العرب، فقط لأن المتضررين من الاحتلال البغيض هم عرب، أليس من البدهي في هذا الصدد أن مواقف أردوغان التركية تفوق مواقف بعض الناطقين بالضاد، حرصا على فلسطين وعونا لها في محنتها؟ أوليس أسلوبه أجدى، بما لا يقارن، من أسلوب من يعتقد من العرب أن استرضاء إسرائيل وعدم استفزازها، ومحاولة بناء الثقة معها، هي الأساليب الوحيدة الممكنة لاستعادة الحق العربي؟

بذلت تركيا جهودا مضنية لدعم قافلة شريان الحياة، وتبرع الشعب التركي بسخاء منقطع النظير لإخوته في فلسطين، وأبحرت سفينة تركية بالمؤن إلى غزة، ويدرك العرب والعالم اليوم أن نبض الشارع التركي يتجاوب لحظة بلحظة مع مأساة أهلنا في غزة، فهل يمكن التنكر لكل هذا، بحجة أن الأتراك ليسوا عربا مثلا، والتغاضي عن التقصير العربي، أو فقدان البوصلة في التعامل مع العدو في بعض الأحيان، مما يضعف مواقف إخوتنا في السجن الكبير الذي يعتقل طغاة إسرائيل فيه شعب فلسطين العربي؟ وهل يمكن على سبيل المثال، أن أتجاهل الناجية من الهولوكوست، التي أضربت عن الطعام في القاهرة من أجل الوصول إلى غزة؟

أو هل يمكن أن أتجاهل آلاف الشباب والنساء الذين قدموا من كل أنحاء العالم إلى المنطقة محاولين الوصول إلى غزة لقضاء أعياد الميلاد ورأس السنة تضامنا مع أهلها المظلومين؟ ألا ينطبق الشيء نفسه على إيران التي أغلقت السفارة الإسرائيلية وفتحت بدلا عنها سفارة لفلسطين، ودعمت القضية الفلسطينية منذ سقوط نظام الشاه، حليف إسرائيل؟ واليوم تبني الهند سفارة جميلة لفلسطين، وتلقى قضية فلسطين حماسا غير مسبوق بين فئة الشباب في الهند، الذين ورثوا حب العدالة من ملهمهم الكبير المهاتما غاندي، فهل يحق لأحد أن يقول إنه لا يرغب في الدعم التركي، أو الإيراني، أو الهندي، أو أي دعم آخر لقضايانا، بحجة أن هذا الدعم غير عربي، حتى إن تراجع الدعم العربي في بعض مناحيه، نتيجة اختلاف في الرؤى، أو الأسلوب، أو الطريقة المثلى التي يمكن أن تقود إلى الهدف المنشود؟

إن معنى الاعتذار الإسرائيلي للأمة التركية كبير بدلالاته، فهو حلقة جديدة من حلقات التعري الذي يُظهِر إسرائيل أمام العالم على حقيقتها المتغطرسة، العنصرية والمجرمة، وإن كانت الحكومات الغربية تغلق عينيها وتصم أذنيها عن هذه الجرائم، وتردد كالببغاوات مواقفها المكررة من إسرائيل، رغم اتضاح جوهر هذا الكيان للملأ في السنوات الأخيرة.

إن الزمن قد تغير اليوم، وأصبحت الأطراف غير العربية أشد تأثيرا، وأكثر حماسا، وأنجح أسلوبا في الكفاح من أجل حرية فلسطين. ولذلك يجب ألا يبقى الشعب الفلسطيني رهينة الأساليب الرسمية العربية التي أثبتت الحياة عدم جدواها في هذا الكفاح، بل يجب أن يمسك بأي إمكانية تخدم أهداف تحرره وكرامته. إن فلسطين أصبحت قضية عدالة دولية اليوم، يلعب فيها تابعو مختلف الأديان من يهود، ومسيحيين، ومسلمين، دورا جديدا ومهما، كما يلعب فيها أطراف من غير العرب دورا حيويا مرحبا به، لأنه يصب في خدمة العرب، وحريتهم، وكرامتهم، ومستقبل أوطانهم.